في اكتمال اغتراب الأفراد والجماعات عن جغرافيا الوطن - أو ربما عمّا كان يعتبر وطناً في بعض مواضعه ضمن صيغة الشتات كأمر واقع - فإنه في حالة الاستثناء السائدة، تبرز انتكاسات إعادة صياغة الهوية أكثر وضوحاً، ذلك أنّ الجغرافيا تمتحن حدود الاختلاف بنفس القدر الذي تتفق فيه مع سياق الرغبة الدفينة في الإبقاء على عنوان لافتة الانتماء، هذا العنوان الذي يصعب محوه من خريطة الشخصية بحكم الرسوخ والتجذّر وصلابة نقوشه على جدران الذاكرة.ولئن كانت الهوية تعريفاً بالذات ضمن الجماعة، فإنها من جانب آخر تعني تميزاً للشخصية بمقامَيها الفردي والجمعي، سواء من ناحية الحفاظ على تجلياتها اليومية، أو لجهة عدم الفكاك من تقييم الآخر الذي يكون غالباً فاقع الصورة في بلد الانتقال الجديد، وقد يدلي بعنصريته العلنية أو الممارساتية اليومية غير المباشرة، هنا تستفزّ الهوية الأصليّة، من زاويتَي كيانها الفردي والجمعي في آن معاً، ليندمجا غالباً في دائرة مشتركة ضمن مشهد تعبيري يستقي جدليّته منهما إلى أن يظهرا كمتّحدين، ليسطع أكثر منسوب النزعة الهوياتيّة الوطنية بحكم انسجام استهداف وتداخل العام والخاص - الفردي والجمعي، السياسي والثقافي، المعاصر والقبلي. هنا يتم اقتراض الهويات الفردية من قبل الجمعية، كما يتم رفد الجمعي بالفردي، هكذا تشكلت القبيلة البدائية ذاتياً، وكذا تستمر بمفردات أكثر حداثة حتى تصل أحياناً إلى نزعة العنصرية القبلية وتطغى على ممارساتها التي تصل إلى مستوى الوحشية أحياناً.
(ضياء العزاوي)

يمكن الذهاب نحو الاستماع إلى إيقاع يوميّ السّطوع، يعنى بذلك ما يجري في فلسطين ومع الفلسطينيين، باعتبارها الصفة التي كلما ترسّخت هويتها/ هويتهم اشتدّت أزمتها/ أزمتهم، بحكم اشتباكها مع هوية إلغائية مضادة مصنّعة في معامل السياسة الاستعمارية مع طباعة «لوغو» ديني عنصري على صندوق أذهان جمهورها/ «الضحية القاتلة»، وهي ضحية مخدوعة بالهوية المشتركة الوهمية، وبالتالي فإنها تمارس القتل وتكرّس عنصريتها لتصديق ذاتها، لكنها مع مرور قرن بدأت بالاقتناع بلا جدوى تصنيع الهوية، ذلك أنها - أي الهوية - في الأصل كيانيّة تجتمع فيها مميّزات الذّاتي التلقائي للانتماء مع الإدراك الواعي للخصوصيات المشتركة مع الجمعي.
ما سبق من عرض هوية الآخر يناقض واقع الهوية الفلسطينية، ويشكّل تضادّاً صارخاً في شتى محتوياته وتجلّياته، فالفلسطيني إن وضع أو هجّر إلى أي مكان يحمل خصوصية الهوية بشقّيها الفردي والجمعي معه في حقيبة السفر، على النقيض من الآخر/ العدو الذي تخلّى عن هويته الحقيقية الفردية والجمعية أيضاً خلال اشتراكه المباشر في محاولة اقتباس هوية أخرى، صناعية، أبعد ما تكون عن حقيقة خفايا ثقافته وسماته وآلية تفكيره ولغته، تلك الهوية التي لم يسمع بها يوماً إلّا في المعبد والأساطير وعبر خطب الساسة، ليجذب المقولة الدينية إلى حقل هو ذاته يدرك مسبقاً بأنه ليس حقله، من هنا يبدو اليهودي المستوطن في فلسطين مدافعاً بقوة الطائرات والقتل والرصاص ودعم العالم عن وهم الهوية، في حين يبدو الفلسطيني غير مضطر تماماً إلى الدفاع عن هويته المستهدفة من حيث الصياغة أو التأويل، إنه مشغول فقط بترسيخ ما هو قائم، لا استجلاب ما هو قادم.
وحدهم الفلسطينيون يجيبون عن السؤال الهويّاتي الاعتيادي بطريقة غير اعتيادية، لتبدو الهوية عندهم بمثابة حمض نووي «D.N.A»، لا مجرّد انتماء تلقائي لمكان ولادة أو أصل عائلة. لهذا هم يفهمونها بطريقة مغايرة لأي شعب في العالم بحكم فرادة الراهن، ولذا سوف يجيبك بخصوص الفحوى وكأنه يردّ على سؤال مصدره هجومي أو مشكك، ذلك رد فعل على النكران، وقد يحتوي الرد بعض العصبية، وربما التحدي أحياناً بحسب منطق السائل. فإجاباتهم لموظفي المطارات تختلف عنها في المقاهي، وأمام تعقيدات الحدود يتم استلهام المسألة بطريقة أكثر ابتكاراً ووضوحاً، لكنهم لن يكونوا في الحالات كافة مرتبكين بصياغة الفحوى، تلك واحدة من أهم سمات الشخصية الهوياتية عندهم. ومن هنا يشعر القريب والبعيد بذلك التشابه في السمات العامة لهذا الشعب من حيث مفردات التعريف، كما يدرك الآخر/ العدو ذلك، فلا ينظر إلى الفلسطيني إلا على أنه مجموعة صور وشخصيات متكررة الجوهر ليبدو «داعية السلام» نسخةً معدّلةً عن الفدائي «الإرهابي» يكملان بعضهما ويشحذان همّة بعضهما، لهذا تصدر الدعوات المتكررة بعدم الانخداع بجهود المتنازلين عن جزء أو عن كل الجغرافيا، فينظر إلى المقاتل الذي يقوم بعملية كالسياسي المهادن، ومن هنا يمكن فهم تعبيرات الصحافة الإسرائيلية التي تصرّح مراراً بأن عرفات وحتى عباس يدعوان إلى السلام بدعم من المقاتلين، والمقاتلون يقومون بعمليات لدعم كذبة السلام!
رموا بهوياتهم مع وصول البواخر إلى شواطئ يافا وحيفا، في حين وصل الفلسطينيون بالآلاف إلى أوروبا فردياً بكلّ مشهدية مأسوية، لكنهم رموا بزوارقهم


إذاً، تبدو صراعات الهوية المحتدمة على أرض فلسطين فريدة من نوعها عبر التاريخ، وهي في كل الأحوال تمثل البؤرة الأولى، والمانشيت الأساسي لعناوين ومفردات الصراع كافة، تلك مسألة مفهومة للطرفين بكل جلاء، لهذا يبدو التقارب أو التكامل بين الهويتين مستحيلاً في كل مرة وكل حين، فالفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 48 يحملون الهوية الإسرائيلية ورقياً، وينتمون في الواقع بقوة إلى الهوية الجمعية ذات الدلالة الوطنية المترسّخة تاريخياً وتلقائياً، حتى إن بعضهم ممن توهّم بالانتماء في فترة ما لجدوى «الأسرلة» سرعان ما بدأ باستعادة اكتشاف ذاته/ هويته بالتدريج، وساعده على ذلك وضوح العنصرية المتنامي على الجانب الآخر متمثلاً في أوجه بقانون «الدولة اليهودية» التي أعادت إلى أذهان الفلسطينيين الذين كان بعضهم قد سكن للأمر الواقع مقولة الشعب صاحب البلاد وفكرة الوطن بشكله وحلمه الأبدي. ومع كل الضعف الذي يعانونه بدأوا بالتعبير أكثر عن الهوية الوطنية، سواء كما جرى في مدن الداخل المحتل عام 48 عقب هبّة حيّ الشيخ جراح، أو ما يظهر هذه الأيام من خلال تحدّي تحذيرات حكومة الاحتلال مثل منع رفع علم فلسطين في عموم البلاد.
على ذلك، فقد تم تهجير الآلاف من مخيمات لبنان، ومن مخيمات سوريا، ودفع اللاجئون نحو أوروبا على متن قوارب الموت، وما إن وصلوا حتى خرقوا كلّ التوقعات خلال فترة وجيزة. بعضهم ذهب نحو ذاكرته الأولى الموروثة، ميمّماً شطر فلسطين زائراً فور حصوله على جواز سفر أوروبي. البعض الآخر بدأ بالعمل على تشكيل جمعيات ثقافية وفكرية وتجمّعات غلب عليها طابع التمسك بالهوية الأمّ ووطنها الطبيعي جغرافياً الراسخ تاريخياً. هنا تبرز أيضاً من جانب ما معضلة الاندماج والتعايش في البلدان الأوروبية، ذلك مفصل خطير، فلا الاندماج الكلّي ممكن أو وارد - وهو مطلب بلدان اللجوء - ولا التخلّي عن الهوية مندرج في الحسبان. ويا للمصادفة الغريبة إذاً، فقد أتى المستوطنون اليهود من أوروبا جماعات وفرادى، ثم رموا بهوياتهم مع وصول البواخر إلى شواطئ يافا وحيفا، في حين وصل الفلسطينيون بالآلاف إلى أوروبا فردياً بكلّ مشهدية مأسوية، لكنهم رموا بزوارقهم وأحياناً أجسادهم في البحر، ثم احتفظوا بالهوية، تلك الهوية المضنية التي لا تعتريها أيّة صناعة قسريّة.