في الرابع من حزيران سنة 1917، يسلّم جول كامبون (Jules Cambon)، الناظر العام لوزارة الخارجية الفرنسية، رسالة إلى ناحوم سوكولوف، الأمين العام للكونغرس الصهيوني العالمي، يقول فيها:«لقد تفضّلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم من أجله، والذي يهدف إلى تنمية الاستيطان اليهودي في فلسطين. أنتم تعتبرون أنه، إذا سمحت الظروف بذلك، ومع الحفاظ على استقلال الأماكن المقدسة من ناحية أخرى، سيكون عملاً عادلاً وتعويضاً مستحقاً أن نساعد، ومن خلال حماية دول الحلفاء، على نهضة القومية اليهودية في تلك الأرض التي نُفي منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة.
إن الحكومة الفرنسية، التي دخلت هذه الحرب الحالية للدفاع عن شعب تعرّض لهجوم ظالم، والتي تواصل النضال لتأكيد انتصار الحق على القوة، لا يسعها إلا أن تشعر بالتعاطف مع قضيتكم، التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء.
إنه ليسعدني أن أقدم لكم طياً مثل هذا التأكيد».
جول كامبون

هذه الرسالة تسبق رسالة (وعد) آرثر بلفور بستة أشهر.
ما هي قيمة هذا الخبر التاريخي ولماذا لم يأخذ هذا التأكيد مداه الإعلامي مثل وعد بلفور، مع أنه يفوقه تشدداً ووضوحاً لناحية «القومية اليهودية» وارتباطها بأرض فلسطين؟ لنبدأ من السؤال الثاني؛ من المرجّح أن الخبر لم يلقَ الاهتمام، لأن الفرنسيين تعمّدوا طمسه، خاصة بعد أن أدركوا أنهم كانوا ضحية خدعة بريطانية-صهيونية. لكن السؤال الأول هو المهم، خاصة لأولئك المهتمين بدراسة المنظمات التاريخية والعوامل الفاصلة في نجاحها. لنعد إلى البداية.
في مئوية ذكرى وعد بلفور، نشرت مجلة «موزاييك»، مقالاً بقلم مارتن كرايمر عنوانه «الحقيقة المنسيّة عن وعد بلفور» (The Forgotten Truth About the Balfour Declaration).
بالمختصر الشديد، يقدم هذا المقال صورة تفصيلية عن المفاوضات المتعددة الجبهات التي قادها سوكولوف مع البريطانيين والفرنسيين والفاتيكان والطليان والأميركيين، من أجل أن يحظى وعد بلفور، الذي كانت بريطانيا بصدد إعلانه، بدعم من جميع الحلفاء المعنيين. في هذا الصدد تتركّب أمامنا صورة معقّدة يجب تفكيكها.

«الأسطورة اليهودية العظيمة»
يقول المقال، إن الصورة النمطية للسبب الذي من أجله قررت بريطانيا منح وعد بلفور، هو حاجتها أن يبقى اثنان من الحلفاء في الحرب، وهما روسيا والولايات المتحدة. بنظر البريطانيين، كان النفوذ اليهودي في هذين البلدين ضرورياً، فقرروا أن يوظفوه. ويعلق كاتب المقال بالقول: «إن الكلام يبدو لنا اليوم كتضخيم لقوة اليهود في ذلك الوقت. ولكنّ الساسة البريطانيين كانوا يعتقدون بما سمّاه المؤرخ الصهيوني البريطاني، هاري ساخر (Harry Sacher) «الأسطورة اليهودية العظيمة». هذه الأسطورة، حسب ساخر، «تجد مثالها الأغبى والأكثر فظاظة في بروتوكولات حكماء صهيون. ولكنّ عدداً من الأشخاص، بمن فيهم أولئك الذين يرفضون هذه الكذبة والتزوير، لديهم بقايا من اعتقاد بهذه القوة وبوحدة اليهود. إننا نعاني من هذا الأمر، لكنه ليس بالكلية من غير مردود. إنه واحد من الأمور التي لا يمكن إدراك كنهها في السياسة، لكنها تلعب، عن وعي أو عن غير وعي، دورها في حسابات وقرارات رجالات الدول».
إضافة إلى هذا السبب النمطي، يعدد المقال عدداً من الأسباب التي اعتمدها المؤرخون، والتي تتمحور حول بريطانية الوعد، لكنه يخلص إلى القول: «حين ندرك القصة كاملة، سوف يظهر وعد بلفور بشكل مختلف تماماً عما نعرفه. إنه لا يبقى استيلاء إمبريالياً بريطانياً، بل نتيجة توافق دولي مبني بعناية من قبل الديموقراطيات الكبرى في ذلك الوقت».

ليست بريطانيا وحدها
ولفهم الموضوع بشكل أوضح، يشرح الكاتب أنه بما يخص فلسطين، لم يكن بإمكان بريطانيا العمل بشكل منفرد، إذ كانت عضواً في تحالف يضم كلاً من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة، فكان لا بد من تنسيق الخطوات في ما بينهم. بالتالي لم يكن بإمكان بريطانيا منفردة أن تتعهد علناً بما يخص مستقبل إقليم تهدف إلى كسبه بالحرب من دون موافقة حلفائها، خاصة أولئك الذين كانت لديهم مصالح في فلسطين. ويضيف الكاتب أن هذه الحقيقة تبدو مشوّشة بسبب صيغة وعد بلفور. فالوعد صادر عن حكومة «جلالة الملك»، ولا أحد سواها. وهو موقّع من قبل وزير خارجية بريطانيا ولا أحد سواه. لكن، في الحقيقة، إن هذا الوعد كان يعبّر عن توافق عريض بين الحلفاء حتى ليمكن مقارنته بقرارات صادرة عن مجلس الأمن اليوم.
يعطي كاتب المقال، سوكولوف حصة الأسد من التقدير في الحصول، ليس فقط على وعد بلفور، بل على موافقة كل من فرنسا وإيطاليا والفاتيكان والولايات المتحدة على هذا الوعد.
ناحوم سوكولوف

فمن هو سوكولوف؟
ناحوم سوكولوف، ولد في منتصف القرن التاسع عشر في وسط بولندا، وحصل على دراسة حاخامية، لكنه لم يكتف بذلك، بل انغمس في الدراسات العلمانية، فأصبح متمكناً من عدد من اللغات والمواضيع، بما فيها تمكّنه من العبرية، التي أصبح من أهم الصحافيين والكتاب بها.
حضر المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، إذ وقع تحت سحر ثيودور هرتزل، وأصبح من كبار دعاة الصهيونية. سافر إلى مناطق مختلفة من الإمبراطورية العثمانية وأوروبا والولايات المتحدة. في سنة 1911، انتُخب في الهيئة التنفيذية للحركة الصهيونية، ومع اندلاع الحرب انتقل إلى بريطانيا ليعمل جنباً إلى جنب مع حاييم وايزمن للحصول على اعتراف بأهداف الصهيونية من البريطانيين. مع دخول الحرب سنة 1917، كان للصهاينة هدفان، أن يربح الحلفاء الحرب وأن يضعوا فلسطين تحت حماية بريطانية خالصة. ففي بريطانيا وحدها كان لهم من الدعم والصداقات ما يؤهلهم لمواجهة المعارضة القاسية التي كانوا يواجهونها من أكثر من جهة في أوروبا، بما فيه عدد من كبار الشخصيات اليهودية الفاعلة. غير أن الصهاينة كانوا في مواجهة عقبتين كبيرتين، الأولى أن البريطانيين سبق أن وعدوا بتقاسم فلسطين مع حلفائهم، والثانية أن الصهاينة لم يكونوا على معرفة بهذا الأمر.
يقول سوكولوف لاحقاً: «إنها تبدو، لأول وهلة، قصة صعبة التصديق. ذات يوم ظهر شخص يُدعى سايكس، قام ببعض الاستفسارات، ثم أظهر رغبة بلقاء قادة الحركة الصهيونية»


اتفاقية سايكس - بيكو
سنة 1916، تم الاتفاق الثلاثي بين بريطانيا وروسيا وفرنسا على تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية وفق «اتفاق آسيا الصغرى» أو الاسم الأكثر شيوعاً، اتفاقية «سايكس-بيكو». في هذا الاتفاق، كان هناك عدد من المصالح المحمية للفرنسيين في فلسطين. فالجليل الأعلى كان لهم، والقدس تحت وصاية دولية، لا يتم تقرير مصيرها من دون التشاور مع باقي الحلفاء. لقد كان هذا الأمر يشكل خطراً كبيراً على الهدف الصهيوني، بحيث وصفه وايزمن لاحقاً، بأنه كان من الممكن أن يكون «قاتلاً لنا».
في السنة نفسها، يصل دافيد لويد جورج إلى سدة رئاسة الوزارة، ومن حسن حظ الصهاينة أنه كان يشعر في قرارة نفسه أن اتفاقية «سايكس-بيكو» تعطي الفرنسيين أكثر بكثير مما يستحقون، خاصة أن البريطانيين هم الذين يقاتلون ويقتلون في سيناء وفلسطين. هنا كلّف رئيس الوزراء لويد جورج، مارك سايكس، أحد طرفي المفاوضات مع الفرنسيين، بإعادة توزيع حصص فلسطين، بما يضمن للإنكليز حصة الأسد. حاول سايكس ذلك مع نظيره بيكو، الذي رفض الموضوع رفضاً قاطعاً، وأصرّ على أن تبقى حصة الفرنسيين مساوية لحصة الإنكليز في فلسطين.

حين اكتشف مارك سايكس الصهيونية
هنا، حسب المقال، «يكتشف» مارك سايكس الصهيونية. يقول سوكولوف لاحقاً: «إنها تبدو، لأول وهلة، قصة صعبة التصديق. ذات يوم ظهر شخص يُدعى سايكس، قام ببعض الاستفسارات، ثم أظهر رغبة بلقاء قادة الحركة الصهيونية». عُقد اللقاء في السابع من شهر شباط من سنة 1917، في أحد المنازل في لندن. وقد حضره كل من سوكولوف، وايزمن، اللورد والتر روتشيلد، جايمس دو روتشيلد وهربرت صموئيل. أي حضره، إضافة إلى مسؤولي الحركة، ممثلون عن فرعي عائلة روتشيلد في كل من فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى هربرت صموئيل، أول وزير يهودي في حكومة بريطانية، ومن عتاة الصهاينة، والذي سيصبح لاحقاً أول مندوب سام بريطاني على فلسطين بعد الانتداب. في ذلك اللقاء يلوّح سايكس باحتمال أن تمنح بريطانيا الحركة الصهيونية نوعاً من الاعتراف، ولكن...

رسالة جول كامبون

العقبة الفرنسية
«الفرنسيون يشكلون عقبة كبيرة. إنهم يريدون كل سوريا، ومشاركة في القرارات المتعلقة بفلسطين». هذا ما قاله سايكس للحضور، حاضّاً إياهم على التواصل مع الفرنسيين «لوضع وجهة نظر اليهود أمامهم، وإقناعهم». بعد نقاش، كُلف سوكولوف بهذه المهمة.
سوف نتجاوز بعض التفاصيل التي يذكرها المقال لنركز على ناحية مهمة. قابل سوكولوف جورج بيكو (المفاوض الفرنسي في اتفاقية «سايكس – بيكو») عدداً من المرات. في المرة الأولى، طرح وجهة نظره بأن تكون بريطانيا وحدها هي «الحامية» في فلسطين، لكن بيكو رفض ذلك. من هنا، حين قابل سوكولوف في ما بعد، رئيس الوزراء الفرنسي، ألكسندر ريبو، وجول كامبون، الذي قابله ثلاث مرات، لم يأت على ذكر بريطانيا، بل ركّز على «جدوى المشروع الصهيوني، وعلى كونه محركاً حيوياً للرأي العام اليهودي في كل من روسيا والولايات المتحدة». اكتفى الفرنسيون بالتعبير عن تأييد للمشروع بشكل عام. لكن سوكولوف لم يكتف بهذا، بل كانت لديه الجرأة لطلب هذه الموافقة خطياً، وحصل عليها بالفعل في الرسالة التي عرضناها في مقدمة هذا البحث، والتي يقول المؤرخون عنها، إنها كانت، بالشكل والمضمون، أكثر ملاءمة للمشروع الصهيوني من وعد بلفور ذي اللغة المخفّفة. لقد ربط الفرنسيون موقفهم بما سموه «العدالة» و«التعويض» واعترفوا بـ«الرابط التاريخي» بين اليهود وفسطين. كما أن الرسالة ربطت الصهيونية بقضية الحلفاء، ولم تأت على أي ذكر لحقوق من هم من غير اليهود.
لقد تفوّق سوكولوف على وزارة الخارجية الفرنسية بدهائه مهارة وحسماً. لقد حصل منهم على تعهد خطي بدعم مشروعه، فيما لم يأخذوا منه أي تعهد على الإطلاق. «لقد تم تخطي العقبة الفرنسية»، هكذا وصف المؤرخان كريستوفر أندرو وأ.س كانيا فورستنر نتيجة جهد سوكولوف في فرنسا، كما يرد في المقال.

«سوف نكون جيراناً طيبين»
بهذه الكلمات لخّص البابا بندكتوس الخامس عشر لسوكولوف موقف الفاتيكان من الهدف الصهيوني. هذا الموقف كان عكس موقف البابا السابق بيوس العاشر الذي قال لهرتزل في سنة 1904، وبكلام لا يعرف المواربة، «لقد رفض اليهود الاعتراف بربّنا، لهذا لا يمكن لنا الاعتراف بالشعب اليهودي». هذه الزيارة لروما كانت بتشجيع من الفرنسيين وبتسهيل من البريطاني سايكس. ومثل البابا، قامت الحكومة الإيطالية بالتأكيد لوسوكولوف عن حسن نيتها تجاه المشروع الصهيوني وتعاطفها معه.

لم يبق سوى الأميركان
هنا أيضاً، ظهرت لمسة سوكولوف الذي كان قد جذب القاضي الشهير لويس براندايز Louis) Brandeis)، الذي عيّنه الرئيس الأميركي ولسن قاضياً في المحكمة العليا، والذي أقنع ولسن بدعم الحركة الصهيونية. بعد ذلك كرّت السبحة بإصدار كل من اليابان وإيطاليا وهما الدولتان اللتان سوف تشاركان في مؤتمر السلام في فرساي، وتصبحان من الدول الدائمة العضوية في «مجلس عصبة الأمم». بعد كل هذا أصبح إدخال نص وعد بلفور في صك الانتداب البريطاني على فلسطين من تحصيل الحاصل.

[يُنشر هذا النص بالتزامن مع مجلة «الفينيق»]