قبل أيام، وإزاء إحراق ميليشيات المستوطنين الصهاينة للمنازل في قرية حوارة وجوارها، لم تملك السلطة الفلسطينية، التي لا تصل سلطتها إلى حوارة الواقعة في منطقة النفوذ الإسرائيلي بحسب اتفاقية أوسلو، إلا أن تدعو الفلسطينيين إلى تشكيل لجان حماية شعبية. لم يكن هذا مفاجئاً من سلطة أوسلو التي لا تفوّت الفرصة لكي تثبت أنها ليست أكثر من وكيل محلي للاحتلال. ولكنه كان دليلاً، في الوقت ذاته، على الإضعاف الممنهج لشبكات حماية الشعب الفلسطيني في ظل عملية السلام وبرعاية السلطة الوطنية الفلسطينية.في آب من العام الماضي، أغلقت قوات الاحتلال 6 مؤسسات أهلية فلسطينية بدعوى ارتباطها بـ«الجبهة الشعبية»؛ وفي 2007 قامت سلطة محمود عباس بالشيء نفسه مع المنظمات الأهلية المرتبطة بـ«حماس» و«الجهاد» — وكان ياسر عرفات قد اتخذ قراراً عنترياً شبيهاً في عام 2001 رداً على عملية استشهادية نفذتها «حماس»، وإن كنا نعلم أن الكثير من قرارات عرفات، الذي كان يحمل «بندقية المقاتل في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى» بقيت حبراً على ورق، أو نفّذت بطريقة ترضي شركاءه الإسرائيليين ولا تقطع ما تبقى له من صلة مع شركائه الوطنيين.
كان أحد الوعود التي قامت عليها عملية السلام هو تجنيب الشعب الفلسطيني، في الضفة بالذات، ما تحمّلوه من قبل من تبعات العمل المقاوم؛ وكانت مزايدات أنصار السلطة تتهم الرافضين للتسوية السلمية بأنهم يريدون تحميل الناس في الضفة فوق ما تحملوا.
لكن منظمات «الثورة الفلسطينية» كانت تدرك أن مسيرة الكفاح، بما في ذلك الكفاح المسلح، ليست جناحاً عسكرياً فحسب. كانت الثورة الفلسطينية، بالذات في مرحلة الانتفاضة الأولى عندما تجذرت المقاومة المسلحة مع أشكال أخرى من النشاط الشعبي، تدرك ما أدركته من قبل الثورة الكوبية وحزب الفهود السود في الولايات المتحدة وغيرهم من التجارب الثورية الناضجة: أن الثورة ليست بندقية فقط، وأن البندقية تحتمي بأشكال من الرعاية وتحميها، من تقديم الدعم للسجناء وأُسرهم، إلى دعم عوائل الشهداء، إلى النشاط التعليمي والترفيهي في إطار العمل المقاوم وبالذات مع أبناء الشهداء والأسرى، وصولاً إلى توظيف البندقية المقاومة لحماية الشعب.
وبينما تدرك كل فصائل المقاومة أنه من المستحيل في صراع مثل صراعنا مع العدو الصهيوني ضمان تجنيب عامة الناس توابع المواجهات العسكرية، فإن الكثير من هذه الفصائل قد وظفت بندقيتها لحماية الناس متى استطاعت، من «توازن الرعب» الذي ينتهجه حزب الله إلى معادلة «العين بالعين... والرأس بالرأس» التي أطلقها أحمد سعدات قبل أن يعتقله ياسر عرفات، إلى نزول «كتائب القسام» إلى ساحة المعركة في «سيف القدس» لتكون الظهير المسلح لانتفاضة الشيخ جراح.
أما التسوية السلمية، وبينما كانت تعد بتجنيب الناس في الضفة تبعات هذا الصراع، فإنها على العكس قد عملت على حرمان الناس من أشكال التنظيم التي كانت تحميهم من هذه التبعات أو كانت تعاونهم على مواجهتها.
خيار الحل «السلمي» — خيار تفكيك النضال المسلح بحجة النضال السلمي، ثم وأد النضال السلمي تحت سلطة تحمي أمن إسرائيل بالوساطة — كان أيضاً خياراً بإضعاف شبكات الحماية والدعم الفلسطينية التي ارتبطت بالعمل المقاوم وترعرعت مع الانتفاضة الأولى. كانت هذه الشبكات بطبيعة الحال بحاجة إلى نوع من المواءمة ما بين السرية والعلنية، وإلى نوع من التواطؤ المجتمعي الذي يسمح لها بأن توجد في هذا الحيز السري - العلني. في المقابل، أصبحت سلطة أوسلو أداة لكشف الغطاء عن الجانب السري، ولمنع هذا التواطؤ (بالذات في عهد محمود عباس إذ كانت الصيغة العرفاتية تقوم على نوع من التواطؤ المحدود مع المقاومة وداعميها بالليل، يقابله تواطؤ أمني محسوب مع العدو بالنهار). ولهذا تواجه التشكيلات المقاومة الوليدة، وتواجه «عرين الأسود»، تحدّياً مزدوجاً، إذ تجد نفسها في ظرف يفرض عليها المواجهة الشاملة مع العدو ويفرض عليها في الوقت ذاته إعداد العدّة المجتمعية والتنظيمية من أجل هذه المواجهة الشاملة.