«هل يمكنك أن تتخيل الحياة مع وجود جدار ارتفاعه أربعة أمتار ومساحة موت بعرض 70 متراً على عتبة دارك؟»،هذا الاقتباس موجود قرب أحد أبرز المعالم السياحية الرئيسية في برلين، التي تحيي ذكرى الحياة في المدينة على جانبي جدار برلين، حيث قسّم المدينة إلى شقين مختلفين. أخبرني ميشيل جبارين (29 عاماً) عن هذا الاقتباس، وهو فلسطيني يعيش ويعمل في برلين كفنان مستقل، عندما تذكر قراءته للمرة الأولى، ظهرت نظرة اشمئزاز على وجهه وقال: «شعرت بالإهانة عندما رأيت هذه الكلمات في مكان عام وسط برلين، عائلتي تشتت بسبب الاحتلال الإسرائيلي وجداره منذ عقود، لست مضطراً لأن «أتخيل» ما تريده مني ألمانيا، نحن نعيش هذا الواقع كل يوم في فلسطين المحتلة». نشأ ميشيل، القادم من قرية الطيبة الواقعة خارج مدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، في ظل قمع الاحتلال الإسرائيلي الوحشي للفلسطينيين، واجه دبابة في الثامنة من عمره، أثناء عملية اقتحام مخيم جنين للاجئين عام 2002، وقضى شبابه وهو يمر عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية من دون أن يستطيع زيارة القدس إلا بتصريح عسكري من الاحتلال، ونظراً إلى أن جذور عائلة جبارين تعود إلى أم الفحم، فقد شاهد عائلته الممتدة تنفصل عن بعضها البعض، بسبب جدار الاحتلال الذي يبلغ طوله 712 كيلومتراً وارتفاعه ثمانية أمتار - تم الانتهاء من بناء 70% منه، وهناك نحو 62 كيلومتراً قيد الإنجاز تشكل 8% منه. يساهم ميشيل جبارين، كمهندس معماري وفنان متعدد التخصصات، في مشاريع ذات طابع اجتماعي أو سياسي، ضمن حركة المقاومة التعبيرية في الوطن.
في تشرين الثاني 2022، كان صباح برلين خريفياً غائماً جزئياً، جلست مع ميشيل وتبادلنا القصص على الغداء، ناقشنا رحلاتنا التي جمعتنا معاً في المدينة، زيارته الأولى لها عام 2019 للمشاركة في مهرجان مسرحي، وارتباط عائلتي الشخصي بألمانيا وزيارتي الأولى إلى برلين في عام 2012، قراره بالعودة إلى المدينة في عام 2020، والحصول على شهادة في التصميم المرئي، قراري، في عام 2022 قضاء أربعة أشهر في المدينة ومواصلة العمل على مشروع يوثق قصص الفلسطينيين في المنفى، مررنا عبر الزمن حتى توقفنا في أيار 2022: حين أخذت الحكومة المحلية في برلين قراراً يمنع إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية.

يبدو أن المعرفة العامة للتاريخ الألماني تبدأ وتتوقف بشكل عام عند الحرب العالمية الثانية والمحرقة، ما أعقب ذلك من الحرب الباردة، واحتلال البلاد وصعود وسقوط جدار برلين يناقش بشكل منفصل. ومن الواضح أن المجتمع الألماني لم يتعامل بشكل مناسب مع تاريخ بلاده المظلم، وليس هناك من يربط بين التاريخ الاستعماري لألمانيا في القارة الأفريقية ومحاولة إبادة ما يقرب من ستة ملايين يهودي مع الأقليات الأخرى. واقعياً، منذ قيام الدولة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية المسروقة عام 1948، أخذت ألمانيا على عاتقها تقديم دعم سياسي ومالي وعسكري غير محدود لإسرائيل، كوسيلة للتعويض عن الذنب الشعبي المعبأ من الهولوكوست. من ناحية أخرى، تقدّم الحكومة الألمانية الدعم للسلطة الفلسطينية، لكن جزءاً كبيراً من هذا الدعم يذهب إلى مشاريع تساهم في قمع الشعب الفلسطيني مثل تلك المختصة بـ «إصلاح» أجهزة الأمن، وبالتالي المساهمة في احتلال فلسطين بوسائل أخرى.
تبنّت ألمانيا عام 2017 تعريف معاداة السامية الجديد -غير الملزم قانوناً- للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست «IHRA»، والذي يتضمن تصريحات تخلط بين الصهيونية واليهودية. على هذا النحو، وبموجب هذا التعريف، صار أي انتقاد لدولة إسرائيل يوصف بأنه «معاداة للسامية». بعد ذلك بعامين، تبنى البرلمان الألماني اقتراحاً آخر -غير ملزم قانوناً- لمكافحة «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» (BDS) التي تناصر الحقوق والحريات المتساوية للفلسطينيين، من خلال الدعوة إلى مقاطعة السلع والأنشطة الثقافية والأكاديمية المرتبطة بإسرائيل. مرة أخرى، رسمت الدولة الألمانية أوجه تشابه بين الأيام المظلمة لحكم هتلر واضطهاده لليهود، وبين الحراك الفلسطيني الذي يدعو إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واستعادة الحق في تقرير المصير.
السياق الذي كان يُنظر فيه إلى الأقليات على أنها أقل من البشر في وقت معين - اليهود في هذه الحالة - هو سياق ما زال يقبل رؤية مجموعة أخرى من الناس - الفلسطينيين - من خلال العدسة الاستعمارية نفسها


إلى جانب سياسات الهجرة غير العادلة التي تنتهجها البلاد تجاه اللاجئين الفلسطينيين، الذين يصنفهم النظام بأنهم «عديمي الجنسية» أو «غير معروفين»، بلغت التحركات الجماعية الأخيرة المعادية للفلسطينيين من قبل الدولة الألمانية ذروتها العام الماضي. وبينما ألغى المنظمون التظاهرة وفقاً للقواعد المفروضة، رفعت الأعلام والكوفية الفلسطينية وغيرها من الرموز بصمت يوم 15 أيار 2022. ونتيجة لذلك، اعتقلت الشرطة الألمانية 170 شخصاً، اتهم 27 منهم بالمشاركة في تجمع غير قانوني، وكان حمل العلم الفلسطيني من بين اتهامات أخرى! لقد تم عقد سبع محاكمات حتى الآن، وبينما أسقطت المحكمة على الفور قضيتين تتعلقان بناشط ألماني ويهودي، فإن القضايا الأخرى ما زالت جارية، وهي تتعلق بشكل أساسي بالنشطاء الفلسطينيين وغيرهم من الأقليات.
خلاصة القول، تصنّف ألمانيا الرموز المؤيدة للفلسطينيين، ومواقف التضامن معهم، بأنها معادية للسامية، وهذا كما تراه الدولة يمنحها الحق في إسكات الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في سياق يفتخر بضمان حق حرية التعبير والحريات الثقافية، لمن يقيمون على أرض ألمانيا. إن هذه القرارات الأخيرة هي شكل من أشكال الاضطهاد والتمييز ضد فئة معينة، إذ يتم تصنيف الهويات الفلسطينية واليهودية على حد سواء إلى تسميات سطحية، وهي «إرهابيون إسلاميون» مقابل «ضحايا».
بصفتي فلسطينية في المنفى، فإن الاستماع إلى روايات ميشيل وأشخاص آخرين عن أحداث العام المنصرم، ومشاهدة ما تبع ذلك من آثار، يشكل مزيجاً من المشاعر، بما فيها الغضب والاشمئزاز والاستياء. قضيت حوالي خمسة أسابيع أفكر في تلك المشاعر، كيف يمكن السماح للأحزاب اليمينية العنصرية بالتظاهر باسم حرية التعبير، بينما لا يستطيع الفلسطينيون الذين يعانون من تبعات نظام استعماري استيطاني وحلفائهم المؤيدين لهم أن يفعلوا الشيء نفسه؟ كيف تجرؤ دولة على إلقاء عبء جرائمها التاريخية على الفلسطينيين في المنفى؟ لماذا تخضع أشكال الفن الفلسطيني أو المؤيدة للقضية الفلسطينية للتدقيق إلى حد حظرها بسحب الدعم المالي؟ لماذا يتعين علينا تعديل لغة المقاومة لتتوافق مع الرواية البيضاء حول نضالنا؟
دارت العديد من الأسئلة في رأسي خلال الفترة هذه، التي قضيتها في البحث عن إلهام من خلال القراءة والبحث في الأرشيف المرئي للتاريخ الألماني.
بعد استراحة قصيرة بعيدة عن ألمانيا، عدت وقررت استخدام مهاراتي في التصوير لترجمة مشاعري وأفكاري إلى صور، فالتقطت سلسلة من الصور المنظمة والتجريدية، أردت استخدام نصب تذكارية رئيسية أقيمت حول برلين جنباً إلى جنب لإحياء ذكرى الهولوكوست والجدار ضمن التجهيز الفني. تنبع اختياراتي من إيماني بأن النقاط في تاريخ ألمانيا التي أدت إلى الهولوكوست، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدعم الأعمى المستمر للمستعمرة الاستيطانية في فلسطين. بعبارة أخرى، السياق الذي كان يُنظر فيه إلى الأقليات على أنها أقل من البشر في وقت معين -اليهود في هذه الحالة- هو سياق ما زال يقبل رؤية مجموعة أخرى من الناس -الفلسطينيين- من خلال العدسة الاستعمارية نفسها. يتم استخدام الهولوكوست بشكل مستمر من قبل السياسيين من جميع الأحزاب لتحقيق مكاسب خاصة بهم. حتى اليهود الذين يجادلون ضد تصرفات ألمانيا المعادية للفلسطينيين، تم تصنيفهم على أنهم «يكرهون أنفسهم»، وفي الواقع إن مناصرة الصهيونية ومعاداة السامية وجهان لعملة واحدة.


يعد جدار برلين مثالاً لما يمثله أي جدار يشبهه: الاحتلال والاستعمار والقمع، وعلى الرغم من أن حجم جدار برلين نصف حجم نظيره الإسرائيلي، إلا أن آثاره السلبية على أولئك الذين عاشوا التجربة وقتها هائلة، ويتم إحياء ذكراه جيداً في أكثر من مكان حول برلين، بتذكر بنائه، وأبعاده، وأولئك الذين قاوموه، وهؤلاء الذين قُتلوا وهم يحاولون الهروب من جانب إلى آخر. لا يمكن لأحد أن يفر من هذه الذاكرة عندما يكون في برلين. إنّ قوة الجمهور التي أسقطت الجدار بشكل مشترك تظهر بشكل جيد في الأماكن العامة، وقد كان الأمل الذي جلبته تلك اللحظة للعالم هائلة. لذلك، وانسجاماً مع التجربة الألمانية، حاولت تخليد ذكرى إخواننا وأخواتنا المقتولين على يد الاحتلال الإسرائيلي، ومدّنا الجماعي الذي لا يتوقف وأملنا في الحرية.
حقيقة أن أربعة مشاركين فقط شاركوا في هذا المشروع، تعكس الخوف الحقيقي السائد بين النشطاء المؤيدين لفلسطين من أي تداعيات سلبية واتهامات كاذبة بـ«معاداة السامية»، والتي بدورها يمكن أن تؤثر على عملهم أو وضعهم كمهاجرين في البلاد. ولقد حرصت على عدم الكشف عن هوية أي شخص شارك في هذا المشروع باستثناء وجهي. بسبب هذا العدد المحدود، دعوت ميشيل للانضمام إليّ كمتعاون، وإضافة الرسوم الرقمية إلى صور مختارة لتعزيز قصتهم. كما ساهم المشاركون في هذا المشروع بكتابة أفكارهم باللغتين العربية والإنكليزية لنقل مشاعرهم حول هذا الموضوع.
سلسلة الصور الناتجة بالأبيض والأسود، التي تحمل عنوان «صبّار: احتجاج مرئي ضد إسكات الأصوات الفلسطينية في ألمانيا»، هي عمل سأفخر به إلى الأبد. لقد تضافرت جهودنا لنقل غضبنا الجماعي وإحباطنا وآمالنا في مستقبل نتمتع فيه بحرية التعبير عن أنفسنا وفننا وهويتنا. طالما استخدم الصبار لإحاطة وحماية الأراضي الفلسطينية، ولا يزال يشهد بصمت على القرى المهجرة، وعلى استمرار استعمار بلادنا، ويرمز إلى الجمال والاستمرار والمقاومة. عندما يرفع صوت فلسطيني واحد يتردد وينتشر كالصبار، ولن يتم إسكاته أبداً حتى مع وجود قوى جائرة مثل تلك الموجودة في ألمانيا.