«هم آتون إليك... فاذهب إليهم»
عند الساعة التاسعة مساء، في الخامس من أيار العام الماضي، تسلّل فدائيان إلى مدينة إلعاد وسط فلسطين المحتلة. قتلا ثلاثة مستوطنين وجرحا ستة آخرين. كان الاحتلال حينها يحتفل بذكرى تأسيس دولة العصابات والمستوطنين. ولهذا المكان رمزية مهمة، فقرية المزيرعة الفلسطينية تحوّلت إلى مدينة وسمّوها إلعاد (بالعبرية: الله إلى الأبد). وهي المدينة الدينية الخالصة الوحيدة، فسكانها من الحريديم، والأكثر نموّاً سكانياً وعدد المستوطنين فيها تجاوز الـ 50 ألفاً منذ إنشائها في التسعينيات.

بعد 63 ساعة من تنفيذ العملية، اعتقل الاحتلال صبحي أبو شقير (صبيحات) وأسعد الرفاعي، وهما من بلدة رمانة في جنين. ونشرت وسائل الاعلام الإسرائيلية بعد ذلك أن العملية كانت رداً على اغتيال عبد الله الحصري.
■ ■ ■

ولد عبد الله أحمد الحصري، في مخيم جنين في 27 حزيران 1999. وقبل أن يلتحق بالمدرسة، شهد حصار المخيّم وتدميره عام 2002. كانت ملحمة كبرى، وأبطالها هم أصبحوا الرجال الخارقين بنظر الأطفال. فبدل «سبايدر مان» أو «بات مان»، كانت الصورة شاخصة عبر يوسف ريحان (أبو جندل)، محمود طوالبة، زياد العامر، نصر جرار، علي الصفوري، محمود أبو حلوة، جمال أبو الهيجا، زكريا الزبيدي وغيرهم.
■ ■ ■

قبل أن يُتم عامه الـ 17، اعتقل الاحتلال عبد الله الحصري، بتهمة إطلاق النار ورمي الحجارة والأكواع باتجاه قوات الاحتلال. أمضى نحو عامين في الزنازين (2016 – 2018). في الأسر، تعرّف إلى الأسير القائد محمد العارضة (مهندس عملية نفق الحرية)، فالصدفة جمعتهما في غرفة واحدة لوقت طويل. حينها تحولت شخصية الفدائي إلى قائد. وعقب خروجه من الأسر، واصل عمله المقاوم في صفوف حركة «الجهاد الإسلامي» وجناحها العسكري «سرايا القدس»، وكان لديه خطة تبدأ بامتلاك السلاح وتنفيذ العمليات كلّما توفر هدف متاح. ورافقه بذلك الشهيدان داود ونعيم الزبيدي.
أعاد الاحتلال اعتقاله مرة أخرى، عام 2019. وفي الأسر حصلت معركة «سيف القدس» وكان لها الوقع الكبير في رفع المعنويات وترتيب الأولويات. أُفرج عنه في آب 2021، وبدل أن يفرح بالحرية شهد في اليوم نفسه استشهاد أصدقائه الأربعة: صالح العمار وأمجد العزمي ونور جرار ورائد أبو سيف. بعدها بشهر واحد حصلت عملية تحرّر الأسرى الستة أبناء جنين من الأسر عبر عملية «نفق الحرية». كان تسلسل الأحداث نقطة تحول في تغير الخريطة الميدانية والاستراتيجية الجديدة للمواجهة. فكان قراره تأسيس «كتيبة جنين» برفقة الشهيد جميل العموري.
■ ■ ■

يلقبه أصحابه بـ«الجامد» لإقدامه وشجاعته، وتميّز بشبكة علاقات واسعة تبدأ بابتسامته المعهودة مع الناس كافة، وتتعمّق أكثر مع أهالي الشهداء والأسرى. هذه الابتسامة كان يعكّرها وجع في المعدة، حيث أصيب بجرثومة خطرة أثناء الأسر ولم يُعرف لها علاج. وكانت معدته تمنعه من الأكل فترات طويلة، وقبل معركته الأخيرة تمشّى مع شقيقه محمد، في مدينة جنين، واشترى «فرشوخة شاورما»، ولم يستطع أكل أكثر من جزء بسيط منها بسبب شدة الألم.
■ ■ ■

في ذاك المساء، للأول من آذار 2022، استمر الشقيقان بصحبتهما على الرغم من «العشاء الفاشل». جلسا في مقهى داخل المدينة. حينها طلب عبد الله من محمد التقرب أكثر من والديهما والقيام بمهمة لم يستطع الالتزام بها بعد الاعتقالات المتكررة وغيابه الكثير عن البيت بسبب تحركاته واختفائه المكثف. ربما كانت إشارات للوداع، والراحل يترك وصاياه من دون إدراك ذلك.
وصلت رسالة لهاتف عبد الله: «هناك باص مرسيدس يشتبه أنه قوات خاصة». سارع عبد الله بالذهاب إلى مخيم جنين. دخل أحد البيوت، حيث ارتدى اللثام، وطلب من أحد الرفقاء أن يشدّ وثاقه جيداً؛ وحمل سلاحه. انطلق إلى بيت الأسير جمال أبو الهيجاء، حيث اعتقلت القوة الخاصة نجله وبدأت بالانسحاب، اشتبك معها. أصاب جنديين، لكن أحد قناصي الاحتلال المتمركز في بناية خارج المخيم، أصابه بثلاث رصاصات استقرت في صدره. ارتقى عبد الله برفقة عضو كتائب شهداء الأقصى شادي نجم (19 عاماً).
■ ■ ■يختصر ما كتبه في صفحته على «فايسبوك» قبل اشتباكه الأخير خياره، أو بالأحرى خيار المرحلة: «لم يرشدنا أحد إلى الطريق، وإنما تعلّمنا كل شيء من أخطائنا»... هذا كلام شاب أم رجل حكيم؟ هنا اجتمع العنفوان مع قرار المواجهة واستباق الاجتياح بالكمائن ووحدات الرصد، وبدل انتظارهم بالذهاب إليهم. وأيّ قرار يحتاج لتنفيذ عبر رؤية فكانت الكتيبة ومن ثم الكتائب في الضفة كلها. لذلك تحوّل إلى نموذج لأبناء جيله، فمن نفّذا عملية إلعاد لم يلتقيا به يوماً وإنما كان الملهم لهما. باختصار، إن ما فعله «الجامد» تعدّى الدافعية الفردية ليكون دافعية جماعية لجيل ولد بعد اتفاق أوسلو، يطمح إلى أن يكون جيل التحرير.