عقد عام 2001 في مدينة دوربان في جنوب أفريقيا المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية، بمشاركة وفد فلسطيني كبير، وكانت من إحدى نتائجه الرئيسة الدفع بشكل متزايد لاستخدام مصطلح الفصل العنصري، «الأبارتهايد»، لوسم القضية الفلسطينية، حتى أمسى لهذا الخطاب مدى انتشار واسع بين المتضامنين مع فلسطين وبل بين الكثير من الفلسطينيين أنفسهم. ولا يمكن فصل العلاقة بين المرحلة التاريخية التي برز فيها الخطاب وبين الخطاب نفسه، حيث أن خطاب «الأبارتهايد» جاء في أصعب مراحل تاريخ النضال الفلسطيني، وبل يجب القول، إن هذا الخطاب ما هو إلا انعكاس لتدهور وضعف فلسطيني، وما بروزه سوى أنه أحد النتائج المأساوية لتلك المرحلة. حيث تم تجريد الشعب الفلسطيني من أنيابه، حتى أمسى كما هو أعزل من السلاح، فهو كذلك أعزل من الناحية الخطابية والنظرية، لدرجة أن يستورد نماذج يسقطها ويفرضها ظلماً على واقعه النضالي. فالعلاقة هنا بين الكفاح المسلح والخطاب الثوري علاقة مباشرة، ومع تردي الحالة الثورية المسلحة تردى كذلك الخطاب الثوري.بل إن المسألة هنا أوسع من ذلك، فالمرحلة التاريخية ذاتها، هي مرحلة السطوة الخطابية الليبرالية، حتى أمسى هذا الزخم والقوة الخطابية والأيديولوجية رافعة لخطاب «الأبارتهايد» ضمن مسار نهاية تاريخ وبداية آخر. وهو ما أسبغ نوعاً من الشرعية لتبني نموذج خطابي يتماشى مع السردية الغربية، مضفياً شكل المقاربة القانونية التي تعالجها المؤسسات الدولية والغربية غير الحكومية، بما فيها الصهيونية نفسها. وعلى وجه التحديد كانت شعارات الديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان الخلفية التي يستند إليها هذا الخطاب. ضمن سردية أن النقاش وحرية تداول الأفكار والمساواة في الحقوق هو ما ينتج أفضل المخرجات الفكرية والنظرية، وما خطاب «الأبارتهايد» إلا نتيجة لهذه الحرية، خصوصاً في البنى الأكاديمية والـ«الثنك-تانكس»، وهو ما يجعله خطاباً عصرياً مواكباً للمرحلة. بينما أن واقع الأمر عكس ذلك تماماً، فما صعود هذا الخطاب إلا دليل على زيف هذه السردية، ليس زيف أهمية وحق التعبير للبشر، بل أن القوة المادية والخطابية في الميزان الغربي هي لمصلحة النزعة الاستعمارية المتأصلة فيه، فقد كنت كعربي تبدأ النقاش «الحر» عن فلسطين أو أي قضية عربية، وأنت تشعر بثقل السردية الغربية على كاهليك، فيصعب عليك قول سوف نحرر فلسطين من النهر إلى البحر وعبر انتفاضة جماهيرية مسلحة، وترى نفسك تحاول التكيّف، وتستعير بركاكة وذل المستكين خطاب «أنهوا الأبارتهايد الإسرائيلي»، كل هذا إلى أن جاء الغزازوة وغيروا كل ذلك.
فالعلاقة بين استعادة الخطاب الفلسطيني الثوري وسلاح المقاومة في غزة هي علاقة سببية وطردية، حيث يتصاعد الخطاب الثوري على حساب سردية «الأبارتهايد»، وفي حين أن موازين القوى فرضت خضوعاً خطابياً في السابق، فما تفعله صواريخ غزة هو أنها تحرر خطابنا الثوري المكبّل، فبعد أن كان الفلسطيني يلحق لاهثاً عن شرعية خطابية من ناشطين غربيين، فقد استعاد الشعب الفلسطيني، وتحديداً في الشتات طليعيته، وأمسى يفرض خطابه، خطاب التحرير الكامل، وأن الكفاح المسلح حق إنساني مقدّس، نمارسه ويمارسه أهل غزة رغماً عن العالم أجمع.
العلاقة بين استعادة الخطاب الفلسطيني الثوري وسلاح المقاومة في غزة هي علاقة سببية وطردية، حيث يتصاعد الخطاب الثوري على حساب سردية «الأبارتهايد»


فالخطاب الثوري هو النتاج الواقعي لتقدم عمل المقاومة، وهو ثمرة دماء الشهداء، والمراكمة الاستراتيجية للعمل والمنجزات. من أهم المنجزات هي تلك التي تحققها معارك وجولات الاشتباك في غزة، وآخرها «ثأر الأحرار». فهي تؤدي إلى إنعاش معركة العودة في الشتات، حيث أن العمل الفعلي على الأرض يعيد انخراط الفلسطينيين في مخيمات اللجوء وفي الخارج، ويحولهم من لاجئين سمعوا قصصاً تحكى عن النكبة، وعرفوها كمجرد إرث ومفتاح رمزي للعودة، إلى لاجئين ينظمون مسيرات في كل أنحاء العالم، ويهتفون للمقاومة التي تسعى لتحقيق حلمهم بالعودة، سواء في المخيمات أو حتى في أكثر العواصم الأوروبية انحيازاً للصهيونية، وهو أيضاً ما يحفظ حق العودة ويحول دون انصهار اللاجئين في المنفى. مشكلين عبر ذلك حاضنة عالمية للمقاومة تصون حقنا في الكفاح المسلح. وهذا التحول من دون شك يشكل ثقلاً أكبر على الرأي العام العالمي من ذلك الذي يدعيه من لا يزال يؤمن بالحوار الديموقراطي الليبرالي الغربي، لتغيير نظرة العالم للقضية الفلسطينية. بالتالي ليس من المبالغة أو الوهم الاحتفاء بالتقدم الذي تحققه المقاومة في غزة، والذي بدوره يعمل على انتشال شعبنا الفلسطيني من هامش التاريخ، ويستعيد خطابنا الثوري في وجه الخطاب الانهزامي الذي يستجدي المجتمع الدولي مطالباً بالحماية. فما يشعر به الفلسطينيون والعرب مع كل معركة هو استعادة خطابنا الأصيل لعافيته، وأن ما يحدث لهو تمرد فلسطيني واضح على الأمر الواقع تحت الاستعمار ومن ينحاز معه، والذي تحاول المؤسسات الغربية بشبكات أموالها فرضه على الفلسطينيين، ويحاول الإعلام التطبيعي الخليجي تمريره في الوعي العربي بشكل مباشر وغير مباشر. أما اليوم فيصنع لنا المقاومون في غزة التاريخ، فهم ينهضون بنا ويعيدون لنا الخطاب الثوري الذي فرض الأمر الواقع الجديد: غزة المحاصرة تردع «تل أبيب»، وعينها على القدس.
أخيراً، تحدث المرحوم جوزيف سماحة عن أن النقد في مرحلتنا هذه يأخذ شكل «العودة للوعي» فوفقاً له «لقد كنا إجمالاً، على حق، وما يجري لنا محطة من مسيرة طويلة»، وما علينا سوى الرجوع للبديهيات وتحويلها لمنطلقات، وما يفعله أهل غزة هو انتشالنا جميعاً والانطلاق بنا، وضمن هذه العودة، فكل ما يحدث اليوم، قد كان كنفاني أخبرنا به منذ عقود: «إنني أجرؤ على القول، من خبرة مادية وواقعية إن هدر مئات الساعات مع آلاف من الصحافيين والإذاعيين الأجانب، خلال السنوات الماضية، قد أدى إلى نتائج لا تكاد تذكر. والشيء الوحيد الفعال هو حجم العمل المسلح والعمل السياسي في أرض المعركة ذاتها».