في يوم الثلاثاء، 9 أيار، عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كنت عائداً إلى البيت، بعد أن انتهيت من إعداد تقرير عن أكلة «القرصة الفلسطينية»، بعد ساعة من ذلك، الهاتف يرنّ، ليتم استدعائي وفريق قناة «فلسطين اليوم» من أجل تغطية جريمة اغتيال ثلاثة من قادة المجلس العسكري لسرايا القدس، خليل البهتيني وجهاد غنام وطارق عز الدين. المشاعر التي تسبق الخروج إلى العمل في بداية أي جولة مع الاحتلال تشبه الوداع، فالخروج لتغطية عدوان الاحتلال الإسرائيلي، أشبه بالخروج لتنفيذ عملية، فالاحتلال لا يميز، الكل مستهدف طالما أنه فلسطيني، اجتمعت عائلتي لتوديعي بالدموع، لأنهم يعرفون إجرام الاحتلال، ووسائله في محاولات كسر عزيمة الفلسطينيين، وكتم الصورة والرواية الفلسطينيتين عن الجمهور.توجهت إلى «مجمع الشفاء الطبي»، هناك سيقف الفريق الإعلامي لـ«فلسطين اليوم»، بعد أن غادر المكتب، خشية من استهدافه، كما حصل في معارك سابقة باستهداف مكاتب وأبراج توجد فيها مكاتب وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والعالمية. كان «مجمع الشفاء الطبي» يضجّ بعائلات الشهداء، الأنباء تتضارب والخبر الذي يحمل الشك لم يعد كذلك.
خرجت في أول رسالة مباشرة في المعركة، وكانت من غرفة ثلاجات الموتى في المجمع، هناك أعلنت تأكيد استشهاد القائد البهتيني وطارق عز الدين. الأمر حينها يشبه، أنك تختبئ من الذين يبحثون عن بصيص أمل لنجاة القادة أو عودتهم للحياة. لكننا بتنا أمام الحقيقة. كل الذين استهدفهم الاحتلال استشهدوا، القادة وأفراد من عائلاتهم. الشعور في تلك اللحظة، تعجز الكلمات عن وصفه، لكن رغم كل شيء، يفرض الميدان نفسه، فنتماسك لنكمل دورنا وواجبنا المهني.
«فلسطين اليوم» هي إحدى قنوات الإعلام المقاوم، تتبع لحركة الجهاد الإسلامي، وهي منبرها الرئيسي للفضاء الخارجي. بدأت المعركة تفرض نفسها، والأجواء آخذة في التوتر يوماً بعد يوم، بينما الاحتلال يغير على قطاع غزة، والمقاومة تدكّ المدن المحتلة خلف قطاع غزة، ووسط كل هذا، نلاحق كإعلاميين في الميدان الجرائم من منزل هنا إلى أراضٍ زراعية هناك، إلى تشييع الشهداء.
مع بداية رد المقاومة على جريمة اغتيال قادة المجلس العسكري، بدأت الصواريخ تخرج من قطاع غزة، مئات الصواريخ تحت عنوان لافت وضعته المقاومة للمعركة «ثأر الأحرار»، وخرجت برسالة على الهواء مباشرة، عنونتها برأسي «المقاومة تثأر للشهداء»، يستمر الاحتلال في غاراته على كل شيء حي وجامد، فلا يوفر الاحتلال إنساناً أو بيتاً، إلا ويضعه للاستهداف، ومع ذلك «تستمر التغطية».
لم يكتم الاحتلال صوتنا، وبقينا جنوداً في معركة الحقيقة، ننقل الخبر بالصوت والصورة، وسنبقى كذلك حتى ننقل خبر التحرير وعودة اللاجئين


أوفدتني القناة إلى جنازات الشهداء، فكنت أتنقّل برفقة طاقم «فلسطين اليوم» من جنازة إلى أخرى، حتى إننا كنا نصف بعضنا ممازحين بــ«الحانوتي» لكثرة ما سارعنا في خطانا، لنلحق بلحظات تكريم الشهداء، بنقل هتافات المشيّعين، وهي تطالب المقاومة بمزيد من الرد، كنت أتعجب وتصيبني الدهشة، حين يصرخ أقارب الشهيد، لمزيد من التضحيات، مزيد من الدماء التي تراق في سبيل فلسطين، وأحدّث نفسي «أي عزيمة تلك؟»، طالما كنت أسمع أن الله يأخذ من الإنسان شيئاً، ويعطيه أشياء أخرى، كان الشهيد يُصطفى، وتهدى الطمأنينة ومعها الرضا إلى قلوب أهله، لا أجافي الحقيقة، إن قلت، كنا نقوى ونستمد العزيمة والإرادة أكثر من أهالي الشهداء.
في تغطية هذا العدوان، وما سبقه، نسرق من الساعات الـ24، أجزاء من الساعة لننام فيها، لنستعدّ للقادم، نستيقظ على استهداف في الشمال، أو قصف منزل في الجنوب، وقد لا ننعم بأجزاء الساعة للنوم، فنتوجه سريعاً نحو الحدث - الجريمة، في سيارة البث الفضائي التي كتبنا على غبار زجاجها «قبر متنقّل»، بسبب خطورة الوضع، ومن إدراكنا البسيط أننا يمكن أن نكون في قائمة الشهداء في أيّ لحظة، ولعلّي في تلك اللحظات فقط فهمت معنى «الطائرات تعضني» لمحمود درويش في قصيدته «مديح الظل العالي».
بعد تغطية أكثر من عدوان على قطاع غزة، شنّه الاحتلال الإسرائيلي، ورؤية الجرائم المروّعة، تبلّدت مشاعري وتجمّدت، عاتبت نفسي مراراً على هذا الأمر، لكنها الحقيقة، ولا مفرّ منها. مع ذلك، كنت أخرج برسائل على الهواء مباشرة، أهدف منها إلى رفع معنويات الجمهور في مواجهة الحرب الإعلامية والنفسية التي يسعى الاحتلال للفوز فيها، فيبث شائعات وأخباراً كاذبة، كان سهلاً تفنيدها، فالكل يعرف الحقيقة، والإعلام المقاوم، ومنه «فلسطين اليوم» تؤكد المؤكد فقط.
قبل سريان وقف إطلاق النار بساعات، توفّرت لدينا مؤشرات إلى قرب انتهاء الجولة، وبدأنا نتجهز لتغطية المسيرات الشعبية التي عادة ما تخرج بعد انتهاء المعارك، لتأييد المقاومة والشد من أزرها، وبالفعل أُعلن عن خروج تلك التظاهرات من مخيمات ومدن القطاع كافة. يصعب عليّ أن أقول، إننا تجوّلنا بين المتظاهرين خلال تلك التغطية، فالدقيق، أننا تجوّلنا بين حناجر الناس الذين كانوا يهتفون للمقاومة، مجدّدين لها عهد التضحية.
أوقفت المقاومة عدوان الاحتلال، لكن عملنا كصحافيين في الميدان، لن يتوقف، فالآن الوقت لنقل الصورة من بيوت عزاء الشهداء، وإجراء اللقاءات والتقارير مع أصحاب البيوت التي دمّرها قصف الاحتلال. في هذه التقارير نجمع باقي الحقيقة، لتكتمل الصورة والرواية، المكتوبة والمصوّرة والمصاغة بمهنية ومسؤولية وطنية واجتماعية، تلتزم السياسة التحريرية لإعلام المقاومة - إعلام الشعب.
في ختام رسالتي، أقول، نجونا هذه المرة أيضاً من استهداف الاحتلال، نجوت أنا الشخص الذي يعيش في غزة، ونجوت أنا الإعلامي الميداني أو المراسل الحربي، وتمكّنا أنا والقناة التي أعمل معها «فلسطين اليوم» أن نتصدى للتشويش الذي كان يقوم به الاحتلال على القناة، التشويش الفني، والمحاولة للتشويش المعنوي في عقول المتابعين، فلا فلحَ معهم ولا معنا، ولم يكتم صوتنا، وبقينا جنوداً في معركة الحقيقة، ننقل الخبر بالصوت والصورة، وسنبقى كذلك حتى ننقل خبر التحرير وعودة اللاجئين بالصوت والصورة، ومن عاش المعركة هذه وسابقاتها، مثلي، يدرك أن هذا اليوم قريب، و«التغطية مستمرة».
كان معكم في هذه الرسالة، وحتى يوم التحرير بإذن الله، أشرف السراج، قناة «فلسطين اليوم»، غزة، فلسطين.