كنت أصارع الأرق في تلك الليلة. أقلّب في صفحات التواصل الاجتماعي بكل ملل. فجأة، وصل خبر عاجل: ثلاثة شهداء في هجوم إسرائيلي على مناطق متفرقة في قطاع غزة. كان الخبر كفيلاً بجعلي أتوتّر أكثر، خوفاً من سيناريو مُعادٍ، يحمل في طيّاته الكثير من الفقدان والحزن والدمار.خرجت من غرفتي لأجد أمّي تتهجّد في قيام الليل، قاطعتها وأخبرتها بأنّ هناك ثلاثة شهداء بهجوم إسرائيلي على غزّة. وكما جرت العادة بدأت بالدعاء بالرحمة لهم. لم ينته هذا الموقف هنا، حتّى بدأت الغارات الصهيونية تتوالى، وبدأت أمّي بقراءة الأخبار على مسامعنا «الاحتلال يفتح الملاجئ للإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة» الأمر الذي جعل الجميع، يظن أن الرّد قد بدأ، لكن ما لم نتوقّعه هو تأخّر الرّد العسكري على الهجوم، الأمر الذي زاد الموقف توتّراً.

رفاقي استشهدوا
مع بدء الرد، كان الجميع على صفحات التواصل الاجتماعي يقول المصطلح الغزّي الشهير، عندما تدوّي صافرات الإنذار في المستوطنات «زمّرت»، وكان الناس منقسمين في مشاعرهم، بين من يريد المقاومة والانتقام بشكل كبير من العدو على كل جرائمه، وبين من هو خائف على الناس من القتل والتدمير اللذين ترتكبهما إسرائيل. لا يخضع هذا الانقسام إلى صوابية الأغلبية، وغلبتها على الأقلية مثلاً، بل هو انقسام صحي، الهدف منه الحفاظ على الإنسان الفلسطيني، لكن بشكلين مختلفين تماماً، فمنهم من يريد الحفاظ على الفلسطيني من ماكينة القتل الإسرائيلية، ومنهم من يريد أن يحافظ على ديمومة الإنسان على الأرض التي له.
أن تعيش في فلسطين، يعني أنّك في حالة حرب دائمة، وقطاع غزّة ليس مفصولاً عن باقي الوطن. لكنّ الحياة في قطاع غزّة، تُحتّم علينا، أن نجرّب الألم بشكل أكبر على مدار التاريخ.
لا أصوّر غزّة على أنها دولة نووية، لكنّ الواقع أخرج لنا أناساً أشدّاء، يحملون أرواحهم على كفوفهم للدفاع بالأشكال كافة، وهذا ما يجعلني مؤمناً بأنّ هذا الشعب لا يموت ولن يموت


بدأ الوضع يزداد ضراوة، وآلة القتل الإسرائيلية، تزداد بربرية ووحشية، وصواريخ المقاومة ترد على الاعتداء. بقيت متماسكاً حتّى وصل خبر استشهاد مجموعة من الرفاق، الذين أعرفهم منذ زمن. تضاربت مشاعري بين الحزن والغضب، لم أستطع السيطرة على مشاعر الحزن لأنني على مدار السنوات التي مضت، فارقت رفاقاً كثراً، كانوا من أفضل الذين عرفتهم في الميادين كافة. وعلى الرغم من الشعور بالحزن الشديد، كنت أردّد المقولة القائلة: «لن تُهزم ما دمت تقاوم» وهنا كان عزائي بهؤلاء الرفاق، أنّنا لم نهزم، وعلى الرغم من هذا، فأنا لست ممن يجعلون الواقع رومانسياً، ولا أدّعي بأن الغزّي لا يُهزم، ولا أصوّر غزّة على أنها دولة نووية، لكنّ الواقع أخرج لنا أناساً أشداء، يحملون أرواحهم على كفوفهم للدفاع بالأشكال كافة، وهذا ما يجعلني مؤمناً بأن هذا الشعب لا يموت ولن يموت.

«نحب الحياة»
بدأت الأمور تتدحرج إلى ناحية معقّدة، وبدأ اليأس يتسلل إلى قلوب بعض الناس، وبدأ المحللون السياسيون بقراءة الجولة، «سنستمر إلى ما بعد مسيرة الأعلام المزمَع إعلانها آخر الأسبوع» وبدأ الناس بتهيئة أنفسهم لحرب طويلة مثل حرب عام 2014. هذا الأمر جعل بعض الأصوات تلوم الضحيّة التي تدافع عنا، تلوم من يطلقون الصواريخ، ولا تلوم الجلّاد، هؤلاء أرادوا ذلك كي لا تزيد الخسائر البشريّة والدمار. وبصراحة، كان الجميع يخاف من سياسة «الضاحية»، يعني أن تتكرّر استهدافات الأبراج السكنية، ليضغط الاحتلال على المقاومة أكثر، لتقبل بأي صيغة اتفاق كانت.
في اليوم ما قبل الأخير للعدوان، تم استهداف منزل في حيّنا، فتضرر جزئياً، هرعنا إلى الشارع حتى نرى أين الاستهداف، فلوهلة ظننت أن الاستهداف ملاصق لنا من شدّة صوت الانفجار. لم يكن الاستهداف قريباً جداً، وبعد أن هدأ الناس قليلاً، بدأنا بجمع الزجاج المتناثر في الشارع من المنازل المحيطة بالاستهداف، لم يُفكّر أحد بخسائره الشخصية في بيته، كان التفكير بجعل الحي آمناً ونظيفاً من جديد، حتّى يتمكن الأطفال من اللعب من جديد. هذا ليس ضرباً من المازوخية أو اللاعقلانيّة في فهم الأمور، هذا هو أسلوبنا نحن العاديين في الصمود، وهكذا نعبّر عنه، أن نصنع مساحة آمنة لأطفالنا، وأن نستطيع حماية أطفالنا هو المهم والأولوية في تلك اللحظات القاسية.
كدت أُهزم عندما رأيت خبر استشهاد الطفل تميم داوود، صاحب الخمسة أعوام الذي استشهد بسبب توقف قلبه، بسبب الخوف من أصوات الانفجارات. تمنيت لو أنّ الحرب تتوقّف للحظة ليخرج في تشييعه الكل الفلسطيني في غزّة. تم الإعلان عن وقف إطلاق النار، وبدأنا نتنفّس الصعداء وعلى الرغم من الكمد الذي أصاب القلوب، من فقدان الرفاق والقتل والتدمير، وتسلل اليأس إلى نفسي لوهلة، لكنني استجمعت قواي في النهاية. كنت قد كتبت على صفحتي في لحظة الضعف: «أنا، بهاء، لم تهزمني الحرب، ولم يهزمني فقدان الرفاق، ولم يهزمني هدم البيوت. وهذا لا يعني أنّني لا أشعر، أو أنّ مشاعري باردة تجاه الأمور. هزمتني فكرة العيش نفسها، فكرة أن تعيش بخرابك الداخلي حتّى لا يقولوا إنّك هُزمت في معركة الحياة ذاتها».
أخيراً، لديّ كل الأسباب للانتحار، ومن السهل جداً إيجاد سبب إضافي. الشاعر خليل حاوي انتحر برصاصة في الرأس بعد اجتياح بيروت عام 1982، لكنّ هذا السبب غير مقنع، لسببين: الأوّل لست شاعراً. الثاني لدينا مقاومة فلسطينية، لا تزال تحارب حتى المستقبل.