نستفيق كل يوم على وقع أحداث دراماتيكية، تصبّ جميعها في خانة ما يحدث في القدس. الأحداث تتوالى في قلب المدينة؛ الاحتلال الذي يسعى دوماً، وفي كل مناسبة، لتذكيرنا أنه هو «السيد المنتصر»، وسكان المدينة وأهلها يحافظون على زمنهم، كأن هذا الاحتلال لم يكن. تتبدّل الأيام، وتأخذ السنون مجراها، فلا الاحتلال قادر على طي صفحة الماضي، بكل مزاميره وأساطيره، ومجموعات مستوطنيه، الذين يتنفسون الحقد صباح مساء. حقيقة ثابتة، ولكنها موجعة أيضاً، فالألم والحزن وسطوة الغزاة، هي الخبز اليومي الذي يحياه المقدسيون، مع سؤال «إلى متى؟».تقول التقارير والدراسات الصادرة بعد أكثر من خمسين عاماً على احتلال بقية المدينة، إنّ سكان القدس الفلسطينيين ما زالوا يشكّلون 40% من سكانها، على الرغم من عشرات المخططات التهويدية التي لم تفلح في السطو على المدينة طوال تلك العقود، فلم تقدر بالتالي على إعلان الانتصار. والعاقل من يسأل، كيف يسعى هذا «المنتصر» في كل عام على إعلان «انتصاره» بمسيرة الأعلام التي تجوب أزقة المدينة؛ هذه المسيرة رشوة للوعي الجمعي الصهيوني، الانتصار لحظة، لحظة واحدة، فيها مهزوم ومنتصر، وفي القدس تبدو في كل أيامها معركة متواصلة لم تنته بعد.
60% من أهلها الفلسطينيين يعيشون عند حد الفقر، ومع هذا لا ينفكون عن الوجود في مدينتهم والذود عنها، ملتصقين بمساجدها وكنائسها، بمدارسها وكل معالمها، يرثون الأرض ومن عليها، ينتظرون لحظة الحرية، يقتنصونها من عيون المحتل، من أسواره وحواجزه، ومخططاته الاستيطانية، من عمليات مصادرة الأرض، وهدم البيوت. فهم يعلمون أن حقيقة وجودهم تقوم على سواعدهم التي شقت طريقها، وعرفت نقاط ضعف عدوها، على الرغم من تردي الواقع الفلسطيني، وارتماء النظام الرسمي العربي في أحضان عدوها، إلا أن أهلها، أحفاد كنعان، يدركون، وعبر ذاكرتهم الجماعية، أنّ غزاة قد مرّوا، وظنوا أنهم انتصروا، ثم عادوا واندثروا. يجيبون كل يوم عن سر صمودهم، كما أجاب شاعر فلسطين محمود درويش «هو أنت ثانية، ألم أقتلك، قلت: قتلتني ونسيت مثلك أن أموت».
منذ احتلال شطر المدينة الشرقي عام 1967، والشعب الفلسطيني يدفع فاتورة الدفاع عن القدس، باعتبارها العنوان الأبرز لقضيتهم. كل الانتفاضات والثورات التي خاضوها، والدم الذي سال من أجلها، والمقاومة المسلحة التي خاضوها، كانت دوماً تحول دون تغول الاحتلال، وتدفعه دوماً إلى الانكفاء، بعد أن تخرس مكبوته التلمودي وأساطيره المجنونة. في الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، كانت القدس تتجهز لتكون عروس المدن، وكان شعبها يشمخ بها، وكانت القيادة الفلسطينية، وعلى لسان قائدها ياسر عرفات، يطلق الشعار الذي يقول «إن شبلاً من أشبالنا سيرفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس». كان يدرك أن لحظة الانتصار لا تمر من غير حرية القدس، وفي الانتفاضة الثانية، التي تمت تسميتها بانتفاضة الأقصى، وقف الكل الفلسطيني مدافعاً عن المدينة، بعد أن دنّس شارون حرمة الأقصى، زيارة واحدة كانت كافية لتشعل ثورة وتنهي أوهام التسوية، ويعود الفلسطيني إلى مربعه الأول، مربع المقاومة.
فالقدس «كاشفة العورات»، كما رآها الشهيد الشقاقي، تكشف الجميع، من عليها ومن معها، وتمتحنهم جميعاً، وستبقى هكذا في فعلها وحضورها اليومي، المدينة المقدسة، العاصمة السياسية للفلسطينيين، تحضر في الوجدان الفلسطيني بهذه الصورة، وتختزل فلسطين الجريحة والمكبلة بالأصفاد، وغدر إخوتها الذين انضموا عبر الاتفاقات الإبراهيمية، محاولين القفز على حقائق التاريخ، وصبر وصمود أهلها. إدانتهم الخجولة التي تصدر عبر مؤسساتهم السياسية غير قادرة على طي هذه الحقيقة الماثلة للعيان، فإمّا أن تكون مع فلسطين وإمّا أن تكون مع عدوها، وهم اختاروا الصف الآخر، بإعلان وبوضوح، فباتوا يحتفلون مع عدونا في ذكرى نكبتنا، ويفتحون له أبواب عواصمهم، يستقبلونهم على السجاد الأحمر، كأن فلسطين لم تكن، يبشرون بنهاية القضية، ويساومون على شعبها كما يساومونه على الفتات الذي يقدمونه، وعدونا مزهو بكرم الضيافة التي يحظى بها من أربابه في عواصم التطبيع.
لكن، هل هذه حقيقة ثابتة؟ هل تجري الأمور هكذا، وهل تستمر هذه الحال وفق هذا الإيقاع؟ وحدهم أهل الأرض الأقدر على كسر هذا المسار، وحدهم الذين يقفون عائقاً أمام هذا الإعصار، لهذا تحاصر غزة، وتضرب بالنار والحديد، كي تخرج من دائرة الصراع، ومع هذا تسقط صواريخها على القدس، لتصل الرسالة واضحة، أن القدس هي العنوان، ولهذا يتم اجتياح نابلس وجنين وطوباس وطولكرم وبقية مدن الضفة في كل يوم، لهذا يخرج الأهل في الجليل والمثلث والنقب في هبة الكرامة، فالحرب سجال.
هناك قدس يصنعها الغزاة في مخيلتهم، والقدس التي نراها هي ليست فقط قطعاً من الجدران، هي صوت أهلها الذي يخترق الآفاق، في باب العمود وباب حطة، حول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والشيخ جراح، وباب المغاربة، في أزقتها وحواريها وأحيائها وأسواقها القديمة، هي شبابها الذين يعيشون لها وفيها ولأجلها، صحيح أنهم يعيشون اليوم حصاراً مشدداً، وهجمة غير مسبوقة، لكنهم يمتلكون الحلم والرؤيا والبصيرة، بأن آخر المعارك قد باتت على الأبواب، فطالما العدو لم يحقق انتصاره، بعد كل هذه السنين العجاف، فلهم أن يأملوا ويحلموا بنهار خال من الأعداء.