يقدّر تعداد الشعب الفلسطيني في يومنا هذا بأكثر من 14 مليون نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في الشتات. ولئن كانت هجرة الفلسطينيين إلى خارج البلاد تجري على ما جرت عليه حاجات البشر وطبائعهم منذ الأزل، فإنها قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما أخذ مسيحيو فلسطين يتقاطرون نحو أميركا اللاتينية سعياً وراء الرزق وهرباً من ربقة الاستعباد والتمييز العثماني. لكن نكبة 1948 كانت ولا تزال الحدث الفارق في حياة الشعب الفلسطيني، فقد أُجبرِ أكثر من ثلاثة أرباع الشعب على اللجوء إلى خارج فلسطين، وتراكبت على ذلك هجرات من مخيمات اللجوء في البلدان العربية ومن داخل فلسطين إلى أوروبا والأميركيتين بشكل رئيسي. ورغم أن الفلسطينيين في داخل الأراضي المحتلة عام 1948 ومخيمات اللجوء في الدول العربية والأميركيتين وأوروبا يشكلون غالبية الشعب المنكوب، إلا أن الطبقة الحاكمة استثنتهم تماماً من حساباتها السياسية التي تعكس مصلحيةً ضيقةً جعلت من حركة التحرر الفلسطينية كياناً وظيفياً يدور في فلك النظام الصهيوني الإسرائيلي.
برزت محاولاتٌ تتمثل في تشكيل هيئاتٍ ومؤتمراتٍ لجمع شمل الفلسطينيين في الخارج، بغرض فرض أمرٍ واقعٍ يزيح الطبقة المُتَغَوِّلَة على القرار الوطني الفلسطيني -وللمفارقة أفرغت تلك الطبقة النظام السياسي الفلسطيني من محتواه باسم ذلك القرار- مركزُها القارة الأوروبية وتتفرع في الأميركيتين، فضلاً عن عشرات الجمعيات ولجان الجاليات المتناثرة في بلدان العالم وأقاليم تلك البلدان. لكن ذلك كله لم يحقق شيئاً على صعيد إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساس ديموقراطي، أمّا ما تحقق من إنجازات تتعلق بمعاقبة إسرائيل في بلدان تلك الجاليات، فليست لتلك الهيئات والمؤتمرات والجمعيات واللجان فيها باع طويلة.

حراثة الجِمال
لا عجب في أن الهيئات التي نبتت من الجاليات الفلسطينية المغتربة لم تستطع، ولن تستطيع في المدى المنظور على الأقل، أن تكون ذات تأثيرٍ في العملية السياسية الفلسطينية، فهي، وعلى الرغم من صدق النوايا واختيار الأهداف الضرورية، غير قادرةٍ على انتهاج أساليب عملٍ مناسبة، إذ إنها عقيمةٌ تنظيمياً، وهي كما يقول المثل الفلسطيني: «تحرث كالجمال»؛ وذلك تشبيهٌ تمثيلي بكيفية مشي الجمل على الخط المحروث، حيث أن خُفَّ الجمل عريض، لذا فهو يسوي الخط الذي سبق وحرثه بمجرد أن يعود عليه، فتكون النتيجة صفراً. يتجلى ذلك في إعادة إنتاج المغتربين الفلسطينيين لنفس الهياكل التنظيمية البالية للفصائل الفلسطينية المهترئة؛ فهذه لجنةٌ قياديةٌ، تشرفُ على لجنةٍ للمرأة، ولجنة للشباب، ولجنةٍ اجتماعية… إلخ.
هي من حيثُ الشكلِ مسمياتٌ فضفاضةٌ تعكس عدم وضوح في الرؤية، وفي الأهداف الآنية والتكتيكية، وهي من حيث المحتوى تجلٍ لكارثة حقيقية وعقلية أبوية ذكورية أكل عليها الدهر وشرب ومسح لحيته. فإذا نظرنا إلى ما تفعله لجان المرأة فلن نجد أكثر من لقاءات عصفٍ فكري تحضرها نفس السيدات ولا يخرجُ عنها برنامجٌ ملموس. الأمر نفسه عند الشباب الذين يطالبون باحتدادٍ بأن تكون لهم لجنتهم، وكأننا في حفلٍ كبيرٍ يريد فيه الفتية رقص الدبكة وحدهم بعيداً من أحاديث الكبار المملة. يقول الشباب إن «الكبار» لا يفهمونهم، لكن ذهنية الشباب في حقيقة الأمر لا تختلف عن ذهنية الكبار جوهرياً.
أمّا اجتماعات الكبار في الهيئات القيادية ومؤتمراتها فتشبه إلى حدٍ ما برنامج «من كل قُطرٍ أغنية»؛ متحدثٌ رئيسي يستفيض حتى ينام نصف الحضور، ثم يُفسح المجال للمداخلات التي لا يمكن تحديد ماهياتها إن كانت أسئلة أو مرافعات أو تعليقات، ثم ترفع الجلسة وتصاغ البيانات بخطابية عنترية وعمومية.

فاقد الشيء لا يعطيه
ثمة جاليات فلسطينية في أوروبا والأميركيتين، بمعنى أفراد فلسطينيين أو من أصل فلسطيني، وليس كتجمعات منظمة لها وحدة تمثيلية ديموقراطية؛ إنه خليط مبعثر من البشر بعضه له جمعيات أو كيانات تشبه ما لبعض النِّحَل من منتديات وأماكن للقاء. ويستحيلُ صعباً تحويل تلك الفضاءات إلى هيئات مسيسة فاعلة لأن العنصر البشري فيها لا يزال متأثراً تماماً بما في المجتمع الفلسطيني من تفكير خرافي وذكورية وفقر معرفي، ونجدنا تلقائياً أمام إعادة إنتاج للواقع الفلسطيني المزري وكأنها ترجمة حرفية ركيكة.
ولو نظرنا بسرعة إلى الجاليات المؤثرة لوجدنا أن لها مدارس وجمعيات ثقافية ونوادي رياضية اجتماعية، وهو ما لا تتمتع به الجاليات الفلسطينية. وحتى أقدم الجاليات الفلسطينية الضخمة كتلك الموجودة في تشيلي والأرجنتين وكولومبيا والولايات المتحدة وفنزويلا، نجد أن مدارسها تعد على الأصابع، وأنها لا تدرس اللغة العربية وليس أكيداً أنها تدرس تاريخ فلسطين والقضية الفلسطينية، ويدلل على ذلك أن أغلب السياسيين من أصل فلسطيني -وهم قلة قليلة- في أميركا اللاتينية يعملون داخل أحزاب تؤيد دولة إسرائيل.
لكن النقطة المضيئة تكمن في قلةٍ من بين الشابات والشباب الذين توافدوا من أواسط التسعينيات إلى أوروبا والولايات المتحدة طلباً للعلم، وحملوا معهم سردية شعبهم وصقلوا خطابهم بما تعلموه فأصبحوا مؤثرين، لا سيما وأنهم لم يبنوا سوراً شفافاً بينهم وبين المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، ولم يذوبوا فيه بشكل سلبي، وعلاوةً على ذلك لا نجدهم منغمسين في تلك التجمعات الفلسطينية التي تنهشها نفس التناقضات القديمة. وهكذا أصبحت الجامعات والنقابات ساحة معارك تتكبد فيها السردية الصهيونية الهزيمة تلو الأخرى. أمّا أوساط المال فشأنها شأن آخر.
معركة الإنسان الفلسطيني الواقع تحت اضطهادٍ مركبٍ (صهيوني-فصائلي «فلسطيني») معركة وعي بذاته أولاً، وهي واحدةٌ في الوطن والشتات ولا تنفصل عن معارك كادحي العالم ومضطهَديهم. ومما يعزي النفس أن السردية الفلسطينية لا تزالُ حية وتقض مضاجع الصهاينة والحال الفلسطيني ما نعلمه، فما بالك لو أنه تحسن!