قبل حادثتي إطلاق النار اللتين شهدتهما الولايات المتحدة هذا الشهر، كانت عمليات إطلاق النار غائبة إلى حدّ كبير عن العناوين الرئيسية في فترة وباء «كورونا». غير أنّ الناس كانوا يموتون قتلاً بالرصاص باستمرار، وبأعداد قياسية.
أودى عنف السلاح بحياة 20 ألف أميركي في العام 2020، بحسب بيانات من «أرشيف عنف السلاح»، أي أكثر من أي سنة في العقدين الماضيين. كذلك، قضى، خلال هذا العام، نحو 24 ألف أميركي انتحاراً بالسلاح.

وتقع الغالبية العظمى من هذه المآسي بعيداً عن الأضواء في البلاد، لتبقى محصورة في المنازل أو في شوارع المدن، وتؤثر، كما كارثة الوباء، بشكل مختلف على مجتمعات أصحاب البشرة الملونة.

وقد جدّدت، مؤخراً، عمليات إطلاق النار التي وقعت، الأسبوع الماضي، في منتجعات منطقة أتلانتا وفي متجر للبقالة في كولورادو، الإثنين، والتي أدت إلى مقتل 18 شخصاً مجتمعين، الجهود الوطنية الرامية إلى إصلاح قوانين الأسلحة. إلا أنّ عمليات إطلاق النار الجماعية البارزة مثل هذه تؤدي في أغلب الأحيان إلى طمس حالات العنف اليومي التي تتسبب في أغلب الوفيات الناجمة عن الأسلحة النارية. على إثره، يقول خبراء أنّ من المحتمل أن تشوّه هذه الحالة فهم بعض الناس للمشكلة، وأن تعقّد استجابة البلاد لها.

وفي هذا الإطار، قال مؤسّس مشارك لمجموعة «ساندي هوك بروميس» لمنع العنف بالأسلحة النارية، مارك باردن، إنّ «هناك مجتمعات عديدة في جميع أنحاء هذا البلد تتعامل مع العنف بشكل مستمر في مجال الأسلحة النارية، إذ بات هذا العنف يشكل جزءاً من حياتها اليومية». ويضيف: « لا تحصل هذه الظاهرة على الدعم، ولا يتم تسليط الضوء والاهتمام الوطني عليها. الناس لا يفهمون أنها ظاهرة مستمرة وأنها في ازدياد حالياً».

ويؤكد أستاذ الدراسات الحضرية في جامعة ولاية كليفلاند، روني دون ، أنّ «أكثر من 100 أميركي يقتلون يومياً بسبب العنف بالأسلحة النارية (تشمل هذه الأرقام حالات الانتحار) غالبيتهم في المجتمعات ذات البشرة الداكنة». وأضاف: «نحن لا نركز على قضية عنف السلاح إلا لدى وقوع إطلاق نار جماعي، لكنها مشكلة مستمرة ومزمنة وتؤثر على جزء كبير من مجتمعنا ».

وقد تجاوزت وفيات إطلاق النار في العام 2020 أعلى معدل لها، إذ فاقت المعدل الأعلى الذي كانت قد سجلته عام 2017، بأكثر من 3 آلاف و600 حالة وفاة. ويترافق هذا الارتفاع مع ظواهر خطيرة أخرى، إذ شهدت الولايات المتحدة، العام الماضي، أعلى زيادة في جرائم القتل خلال عام واحد، منذ بدأت بالاحتفاظ بالسجلات؛ فعرفت أكبر مدن البلاد ارتفاعاً بنسبة 30% في هذه الجرائم. كما ارتفع عدد الإصابات، الناجمة عن إطلاق النار، بشكل كبير، ليلامس 40 ألف إصابة، أي أكثر بـ8 آلاف مقارنة بالعام 2017.

ويقول الباحثون إن الوباء غذّى هذه الظاهرة بطرق عديدة، كما أدّى انتشاره إلى عرقلة جهود مكافحة الجريمة، وإلى تفاقم البطالة والإجهاد، في وقت أغلقت فيه المدارس وغيرها من البرامج الاجتماعية أبوابها أو أصبحت عن بُعد. كما أشاروا إلى الانهيار الواضح في ثقة الشعب بإنفاذ القانون، عقب قتل الشرطة لجورج فلويد في مينيابوليس.

كذلك، نتج عن الوباء وعن الاحتجاجات المناهضة لعنف الشرطة زيادة كبيرة في مبيعات الأسلحة النارية. ففي عام 2020، اشترى الناس نحو 23 مليون قطعة سلاح، أي أكثر بـ64٪ مقارنة بمبيعات عام 2019، وفقا لتحليل واشنطن بوست للبيانات الفدرالية حول خلفية الاسلحة.

يشير دون، في هذا الإطار، إلى أن هذا «الفيضان» من الأسلحة النارية هو العامل الأكثر تأثيراً في الكفاح من أجل كبح عنف الأسلحة النارية، لافتاً إلى أنه عندما تتحول عمليات إطلاق النار إلى «الشريط الصوتي الخاص ببعض أحياء المدينة، فهي تزيد من القلق والتوتر وتخلق ضغوطاً سامة». وقارن دون هذه التأثيرات باضطراب ما بعد الصدمة، على غرار ما يعاني منه قدامى المحاربين.

وقد وصفت إحدى الدراسات الحديثة العنف بالأسلحة النارية بأنه «أزمة صحية عامة ممتدة على مدى عقود من الزمن». ووجد تحليل للبيانات من مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، أن الذكور السود الذين تراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً شكلوا نسبة 37 في المئة من جرائم القتل بالأسلحة، على الرغم من أنهم يمثلون 2 في المئة فقط من مجمل سكان الولايات المتحدة، وهو معدل أعلى بـ20 مرة من الذكور البيض في العمر نفسه.

ولم توفر موجة إطلاق النار الشباب والأطفال حتى في جميع أنحاء البلاد. فقد أودى إطلاق النار بحياة نحو 300 طفل في عام 2020، وفقاً لبيانات أرشيف العنف ضد الأسلحة النارية، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 50 في المئة عن العام السابق. وقد قتل، أو أصيب، أكثر من 5 آلاف ومئة طفل ومراهق بعمر 17 سنة، العام الماضي، أي أكثر من 1000 حالة مقارنة مع أي عام آخر منذ العام 2014، عندما بدأ الموقع بجمع هذه البيانات.

وتعدّ هذه الزيادة صادمة، ولا سيما أنّها سُجّلت في عام لم يكن فيه معظم الأطفال يتردّدون إلى الصفوف شخصياً، أي إنهم تجنّبوا إطلاق النار المميت في المدارس. ويقول الخبراء إنّ هذه الظاهرة تسلط الضوء على خطورة الانتحار والعنف المنزلي.

واللافت في الأمر، أنّ معدل إطلاق النار الجماعي في العام 2020 كان واحداً كلّ 73 يوماً، مقارنة بواحد كل 36 يوماً عام 2019، وبواحد كل 46 في عامي 2017 و2018، وقد وضع هذا التباطؤ حداً لخمس سنوات من عمليات إطلاق النار الأكثر تواتراً وفتكاً.

بالتالي، يخبرنا ارتفاع معدل عنف السلاح في ظلّ انخفاض عمليات القتل الجماعية بالأسلحة، أنّ هذه الأحداث التي يجري تسليط الكثير من الأضواء عليها لا تمثّل إلا نسبة صغيرة من الوفيات بسبب الأسلحة النارية في الولايات المتحدة.

المصدر: واشنطن بوست