يواجه النظام اليمني أزمات متعددة تبدأ في الشمال، حيث الحروب المتكررة بين الحوثيين والسلطة، والخلافات المستفحلة مع المعارضة، مروراً بخطر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» ووصولاً إلى الجنوب، حيث تتصاعد مطالب فكّ الارتباط عن الشمال. القضية الجنوبية تبرز الأقدم، إلا أنه الأكثر غياباً عن الساحة الإعلامية، ربما بسبب الخلافات بين أطرافها وتعدّد رؤى الحليقف جنوب اليمن على مفترق طرق، بعدما تمكن سكانه من إعادة فرض قضية مطالبتهم بفك الارتباط عن الشمال لتحتل واجهة الأحداث على الصعيد الداخلي من جهة، وتطرح نفسها قضيةً ذات أولوية على الصعيدين الإقليمي والدولي من جهةٍ ثانية.
وخلال سنوات لا تتعدى ثلاثاً، نجح الجنوبيون في توحيد أصواتهم المطالبة بفك الارتباط خلف «الحراك الجنوبي»، المتجه بمختلف مكوناته نحو مرحلة جديدة من العمل في مواجهة نظام الحكم في صنعاء، عنوانها الأبرز العمل على تحويل مطالب فك الارتباط إلى أمر واقع من خلال فرض نظام سياسي جديد في المحافظات الجنوبية.
إلا أن نجاح هذا التوجه، يبقى رهن قدرة الحراك في الحفاظ على ما تحقق من مكاسب خلال السنوات الأخيرة، والتغلب على الخلافات التي تعصف بين القيادات الجنوبية في الداخل والخارج، بسبب النزاع على شرعية هوية من يمثل الجنوبيين.
والتحول في عمل الحراك لم يكن وليد لحظة، بل جاء نتاج عمل تصاعد على مراحل خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعدما نجح في تحويل مجموعة من المطالب الاجتماعية لأبناء الجنوب إلى مطالب سياسية يتقدمها السعي إلى فك الارتباط. ومثّلت مطالب آلاف الموظفين المتقاعدين المدنيين والعسكريين، الذين أقصوا من مواقعهم الوظيفية في الجنوب في أعقاب حرب عام 1994، الأساس المناسب لإعادة إحياء مطلب فك الارتباط بعدما فشلت السلطات اليمنية من خلال لجوئها إلى حلول جزئية في التعامل مع مشكلة المتقاعدين.
فمنذ بداية عام 2007، بدأ المتقاعدون في تنفيذ اعتصامات، مطالبين بتصحيح أوضاعهم. ومع توالي الاعتصامات التي تحولت من شهرية إلى أسبوعية، بدأت تتضاعف أعداد المشاركين لتتخطى المتقاعدين، وتشمل أبناء الجنوب بمختلف فئاتهم، في رد فعل على العنف الذي اختارته السلطات في مواجهتهم.
أما تركز الاحتجاجات في محافظات لحج والضالع فلم يكن سوى نتيجة حتمية لانتماء معظم المتقاعدين إلى المحافظتين. ومع حلول العام الثاني على الحركة الاحتجاجية في الجنوب، بدأت المطالب السياسية تتسلل إلى جانب المطالب الاجتماعية. وسرعان ما احتلت الأولوية مع تراجع نفوذ المتقاعدين لمصلحة مجموعة من القيادات السياسية، رأت أن الفرصة باتت سانحة لاستعادة مطلب فك الارتباط، بعدما نجحت ممارسات السلطة في نكء جراح الماضي.
وأحسنت القيادات الجنوبية في الداخل، التي انضوت في معظمها ضمن ما بات يعرف بالحراك الجنوبي، استغلال مشاعر الظلم التي اجتاحت الجنوب منذ عام 1994، بسبب فرض الوحدة قسراً وترافقها مع نفي القيادات الجنوبية إلى خارج البلاد، وطرد آلاف الموظفين الجنوبيين وتسريحهم من وظائفهم في الدولة، واستباحة العديد من الموالين للسلطة الجنوب عبر الاستيلاء على الأراضي وتفكيك مؤسسات الدولة الجنوبية.
أخطاء أدت دوراً بارزاً في إفشال استراتيجية الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح، الساعية إلى إقناع الجنوبيين بارتباطهم بالشمال من خلال تعيين وزراء جنوبيين في حكومته، بينهم رئيس الوزراء الحالي علي محمد مجور.
وفيما كان النظام يسعى إلى التخفيف من وطأة ما تشهده المحافظات الجنوبية من تصاعد في الحركات الاحتجاجية مستخدماً العنف المفرط في محاولة لقمع الحراك، كان أبناء الجنوب يعيدون تنظيم صفوفهم على وقع ارتفاع الدعوات إلى حمل السلاح، الذي غدا شريكاً أساسياً للمتظاهرين، ما أسهم في ارتفاع التوترات وسقوط عدد أكبر من الضحايا ليغذي الصراع أكثر فأكثر.
في هذه الأثناء، استطاع الحراك تعزيز صفوفه بانضمام الشيخ طارق الفضلي، الذي كان أحد المقربين من صالح، ما أسهم في توسع الاحتجاجات إلى محافظة أبين الواقعة تحت سيطرته. لكن انضمام الفضلي أفسح في المجال أمام بروز تساؤلات عن علاقة بين الحراك و«القاعدة»، ولا سيما أن الفضلي كان من بين الأشخاص الذين شاركوا في حرب أفغانستان، وتزامن انضمامه مع محاولة التنظيم اللعب على وتر الخلافات بين السلطة اليمنية والحراك والدخول طرفاً في المعركة بإعلان دعمه للجنوبيين.
إلا أن الدفعة الأساسية لعمل قيادات الداخل جاءت مع عودة عدد من القيادات الجنوبية في المنفى للظهور وإعادة تبنيها قضية تحرير الجنوب، وفي مقدمتهم علي سالم البيض.
وبعد نحو 15 عاماً من الصمت، اختار البيض الذكرى التاسعة عشرة لوحدة اليمن، لإعلان عزمه على العمل لـ«استعادة دولة الجنوب». بدوره عاود السياسي الجنوبي حيدر أبو بكر العطاس، الذي شغل منصبي رئيس حكومة الوحدة مع الشمال ورئيس حكومة الانفصال في أعقاب حرب عام 1994، الظهور وتبني القضية الجنوبية.
وقدم كل من البيض، من خلال مسودة البرنامج السياسي للمجلس الأعلى للحراك السلمي، والعطاس مشروعين لتحرير الجنوب من «الاحتلال»، اتفقا خلالهما على عدد من النقاط مقابل اختلافهما على عدد آخر. خلاف لن تكون القضية الجنوبية في منأى عن تداعياته.
واتفق المشروعان على اعتبار حرب 1994 كافية لإلغاء مفاعيل الوحدة وسقوطها إلى غير رجعة، وتأكيد وجود استحالة التعايش بين الشمال المتخلف والقائم على نظام قبلي، والجنوب المتحضر، إلى جانب تقديم تصور مفصل وشبه متقارب لمنهجية العمل خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك ملامح وأسس النظام السياسي ومؤسسات دولة الجنوب المرتقبة.
أما التباين في مشروعي البيض والعطاس، فتركز على طبيعة العلاقة مع النظام في صنعاء خلال المرحلة التالية وتوزيع أدوار القيادات الجنوب، إلى جانب أسباب فشل الوحدة. ويرى البيض أن السبب الأول للفشل يعود إلى تحويل النظام اليمني الوحدة من «قضية شراكة بين دولتين إلى قضية احتلال يعمل على منح بعض الجنوبيين مناصب شكلية لإظهار شرعيته في حكم الجنوب».
وبالنسبة إلى مشروع البيض، فإن الصراع هو «صراع وجود، صراع بين ثقافتين وحضارتين ودولتين، لا يمكن إنهاؤه إلا بطرد الاحتلال واستقلال الجنوب واستعادة دولته». ويشدد على أنه «لا يجوز الاعتراف بشرعية الاحتلال، وذلك بإيجاد بعض الأشكال السياسية للحل، فدرالية أو كونفدرالية أو غيرها من المشاريع المرفوضة».
في المقابل، يرى العطاس أن الحزب الاشتراكي اليمني، في فترة قيادة البيض، «ارتكب أخطاءً تاريخية جسيمة، أهمّها دخوله عام 1990 شريكاً مع المؤتمر الشعبي، في وحدة اندماجية ارتجالية مزاجية وغير مدروسة بين دولتين مستقلتين، من دون استفتاء وتفويض شعبيين، ومن دون الأخذ في الاعتبار للمصالح العليا لشعب الجنوب».
ويرى العطاس بضرورة وجود حوار مباشر بين النظام في صنعاء وبين الجنوب وممثليه «وتحت رعاية وضمانة إقليمية وعربية ودولية». كذلك لا يمانع العطاس إمكان «إقامة علاقات شراكة مستقبلية تفضيلية ومتطورة مع الجمهورية العربية اليمنية بعد استعادة الجنوب لدولته المستقلة».
وفي السياق، يرى البعض أن موقف العطاس، المدعوم من علي ناصر محمد، يلتقي مع معارضة الشمال، وبالأخص الشيخ حميد الأحمر، الذي يطمح إلى استخدام الورقة الجنوبية للضغط على الرئيس اليمني في إطار الصراع على السلطة.
أما نقطة الخلاف الثالثة بين البيض والعطاس، فتتركز على دور قيادات الجنوب في الخارج. فالبيض، الذي يدرك جيداً حجم التأيييد الواسع له من قيادات الداخل، ينادي بضرورة أن تكون القيادة المركزية لهم، ويطالب بأن يقتصر دور الخارج على المساعدة لتبني ما يصدر عن الداخل. في المقابل، يطرح العطاس ضرورة وجود دور متساوٍ لقيادات الخارج والداخل.
وفي ظل فشل القيادتين في التوصل إلى اتفاق، على الرغم من لقاء جمعهما الشهر الماضي في ميونيخ، ونظراً لوجود عدد من الأطراف الإقليمية المتضررة من احتمالات عودة اليمن إلى زمن التقسيم، بدأت عدد من الدول العربية التحرك في اتجاه إيجاد تقارب بين قيادات الجنوب الخارجية.
ويبدو أن السعودية، المقررة استضافتها لمؤتمر أصدقاء اليمن الذي سبق أن تبنى خيار الفدرالية بوصفها الحل الوحيد القادر على المحافظة على وحدة اليمن، تسعى إلى الدفع في اتجاه التقارب بين البيض والعطاس.
وبعدما سرب نبأ لقاء مبعوث سعودي بالبيض خلال الشهر الحالي، نفت مصادر مقربة من الأخير الخبر، ووضعته في سياق محاولة الرياض الظهور كأنها تمسك بورقة الحراك الجنوبي من جهة، ومحاولة الضغط على البيض للقبول بتأليف قيادة للحراك في الخارج مقابل الحصول على دعمها، وذلك لقطع الطريق على محاولته الحصول على دعم قطري إيراني.


أبرز قيادات الداخل


تؤدي مجموعة من القيادات الجنوبية دور المحرك لقاعدة «الحراك الجنوبي» في مختلف المحافظات، على الرغم من وجود تباينات في ما بينها لجهة طريقة إدارة الصراع مع السلطة اليمنية.
ويتقدم القيادات الجنوبية حسن باعوم، الذي يرأس المجلس الأعلى للحراك السلمي، ولا يزال محتجزاً في السجن المركزي في محافظة أب.
وبدأ باعوم، الذي يعاني عدداً من الأمراض المزمنة، أول من أمس إضراباً عن الطعام احتجاجاً على رفض السلطات له استكمال علاجه في الخارج.
وبالإضافة إلى باعوم، يبرز الإسلامي طارق الفضلي (الصورة) وعبدروس أحمد حقيس في أبين وناصر محمد الخبجي في لحج. أما في مهرة، فيشارك سعيد محمد سعدان بصفته رئيساً لمجلس الحراك في المحافظة في جهود توحيد صفوف الجنوبيين لمواجهة «الاحتلال» إلى جانب عدد كبير من القيادات الموزعة على باقي المحافظات الجنوبية.