منذ ست سنوات، توفي الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مستشفى برسي العسكري في كلامار شمال باريس. ومنذ هذا التاريخ والكتابات إلى جانب الهمس يدوران هنا في العاصمة الفرنسية حول «الظروف التي أدت إلى موت أبو عمار»
بسّام الطيارة
هل قتل الإسرائيليون عدوهم غدراً عبر «دس سم في الطعام»؟ هل صحيح الحديث عن عملاء اندسّوا في صفوف محيطه؟ أم أن ظروف «السجن» في غرفة واحدة في مقر المقاطعة سببت ضغوطاً نفسية وصحية أتت على صحة «المقاوم أبو كفية»؟
صدمة رحيل الرئيس دفعت العديد من محبيه في العالم العربي، وفي أرضه فلسطين، إلى بث الشكوك حول أسباب مرضه، وخصوصاً أن «أسطورة البركة» رافقته طيلة مسيرة نضاله: فهو أفلت مراراً من شباك الملاحقات الإسرائيلية في بيروت وعمّان، ونجا من سقوط طائرته فوق الصحراء الليبية وخرج سالماً من هيكل محطم وسط الرمال الساخنة.
الأسئلة الغامضة حول وفاة الزعيم الفلسطيني لا تزال حاضرة حتى اليوم. وأول من طرح أسئلة خارج الإطار العاطفي العربي كان تحقيقاً نشرته صحيفة «هآرتس» بعنوان «عرفات ذهب ضحية مرض الإيدز أو السم» بقلم الصحافيين عاموس هارئيل وآفي إيزخاروف اللذين نقلا عن خبير اسرائيلي قوله إن «احتمال إصابة الرئيس بمرض الإيدز ضئيل جداً، بينما كل العوارض تشير إلى أنه قضى بالتسمم». وفي كتاب تحت عنوان «حرب اسرائيل السابعة»، أعاد الكاتبان التشديد على مسألة التسميم ووصفا عرفات بأنه «رجل ميت يمشي»، في إشارة إلى السم الذي كان يدس له بكميات محدودة لمدة طويلة (خلال الحصار في المقاطعة) وبمعرفة عدد محدود من المسؤولين.
وبعد ذلك، أثار القضية مراسل القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي يورام بينور، مؤلف كتاب «عدوي هو أنا»، وذهب في سياق الاتهامات نفسه، ليوافق طبيب عرفات الشخصي أشرف الكردي.
لكن ماذا يقول أطباء مستشفى بيرسي العسكري، أحد أهم المراكز الطبية في أوروبا لمعالجة أمراض الدمويات؟ في ١٩ تشرين الثاني ٢٠٠٤ صدر عن الدكتور برونو باتس، رئيس القسم الذي استقبل عرفات، تقرير سري جاء فيه: «دخل المريض إلى المستشفى العسكري قبل ثلاثة عشر يوماً، وبعد ثمانية أيام نقل إلى قسم الرعاية الفائقة حيث تبين أنه مصاب بجلطة في الدماغ مع نزيف عنيف. وقد سبب هذا النزيف مضاعفات على المستوى السريري تمحورت حول أربعة عوارض، منها عارض هضمي تبين أنه يعود إلى ٣٠ يوماً قبل وصوله إلى المستشفى مصدره التهاب معوي». ويضيف التقرير أنه «جرى التشاور مع عدد كبير من الخبراء، وعُرضت نتائج التحاليل من دون الوصول إلى تصنيف مرضي يسمح بربط هذا العارض مع العوارض الأخرى، ويؤدي إلى يرقان مع وقف لإفرازات المرارة وعوارض على الجهاز العصبي أدى إلى حالة سبات (كوما)».
وقد ساهم هذا «الفراغ والعجز» في التقييم الطبي لأسباب الوفاة بإعطاء نوع من الجدية لتهديدات أرييل شارون السابقة بـ«التخلص من عرفات»، رغم الوعود الكثيرة التي قطعها لعدد من رؤساء الدول، وأشهرها «تعهد لجورج بوش في آذار عام ٢٠٠١» بعدم مس عرفات. إلا أن الصحافي الاسرائيلي أوري دان المقرب جداً من شارون، كتب في كانون الأول عام ٢٠٠٤ أن رئيس الوزراء الاسرائيلي قال لبوش الابن «إنه لم يعد مرتبطاً بالوعد السابق» في ما يتعلق بعرفات. ونقلت صحيفة «معاريف» في ٤ تشرين الثاني عام ٢٠٠٤ أن بوش رأى أن «من الأفضل ترك مصير عرفات بين يدي البارئ»، ما استدعى رداً من شارون بقوله «في بعض الأحيان علينا أن نساعد الخالق».
وكان شارون قد ذكر أمام عدد من المقربين منه أن «الدولة العبرية تخلصت من الشيخ أحمد ياسين ومن عبد العزيز الرنتيسي» وتساءل أمامهم «ما الفارق بين عرفات وهؤلاء؟». وتابع «لقد تصرفنا مع هؤلاء المجرمين وسوف نتصرف مع عرفات»، وهو ما نقلته عنه حرفياً صحيفة "يديعوت أحرونوت" في ١٤ أيلول عام ٢٠٠٤.
الكاتب الاسرائيلي أمنون كابليوك، صاحب الكتاب الشهير عن صبرا وشاتيلا والمقرب جداً من الزعيم الفلسطيني، يصف «الدقائق الأخيرة» التي عاشها إلى جانبه. ويقول: «في ١٨ آب ٢٠٠٤ استمعت لعرفات يشرح الوضع أمام المجلس التشريعي الملتئم في المقاطعة، في خطاب دام ساعتين بصوت جهوري قوي. لم يكن عرفات مريضاً البتة».
في ٢٨ أيلول من العام نفسه، وفي الاحتفال الرابع بذكرى انتفاضة الأقصى، التقى كابليوك عرفات. وكتب «عانقني، سألته عن سبب تراجع وزنه فأجابني: هذا ليس مهماً».
عند الغداء، أكل أبو عمار مثل العادة كمية بسيطة جداً إلا أنه «شارك بقوة في الحديث».
في تشرين الأول تراجعت صحة عرفات كثيراً. في ١٢ من ذلك الشهر، وبعد العشاء، بدأت تظهر عوارض أوجاع في البطن مع تقيؤ وإسهال. لم يستجب المريض لفعل أدوية «كريب معوي». في ٢٧ من الشهر نفسه، ازداد الوضع خطورة وفقد وعيه لمدة ربع ساعة. في اليوم التالي وصل الأطباء المصريون وبعدهم تونسيون وبعدهم أطباء من الأردن. كلهم اقترحوا إخراج عرفات من المقاطعة ونقله إلى مستشفى فرنسي.
ويكتب كابليوك: «عندما شاهدت عرفات أثناء نقله من المقاطعة، التي بقي محبوساً فيها لـ35 أسبوعاً، أثار انتباهي غياب الكفية الشهيرة. كانت قبعة فرو تغطي رأس الزعيم: لم يكن عرفات الذي عرفته في بيروت المحاصرة عام ١٩٨٢».