سريري اللعين
عندما جاء الليل، دعاني السرير إليه، لا للنوم، بل للسهر بين طيّات الأفكار المعلّقة بين زماني ومكاني، بين داخل حياتي وخارجها. حياتي، المفعمة بالأحداث، ليست أحداثي وحدي، فمنها ما أنا فيه شخص أساسي، ومنها ما أكون له مجرّد متفرجة.
أحياناً أشعر بأنّ ما أراه أمامي، في حياتي هنا، أصعب ممّا أعانيه. وأحياناً أشعر بالعكس تماماً، كأنّ أقرّر مثلاً القفز عن سطح بناية، تحسّراً على نفسي وعلى ما أعيشه، فأرى في كلّ طبقة أمرّ بها وأنا أقع من عل، مصيبة أفظع من سابقاتها، ومن مصائبي. هذا مجرد كابوس واحد من عدة كوابيس يدخلها إلى قلبي هذا السرير، هكذا ما إن يدنو الليل ووقت النوم حتى أجدني أنفر منه.
قد يقول قائل: لكن السرير هو الراحة، وهو الذي سيكون يوماً مرتعاً للحبّ وملعباً للأحلام والسعادة، لكن سرعان ما أقول: ليس لي. فبالنسبة إلي هو منبع الأحزان والكوارث، فيه أعيش نكباتي الواحدة تلو الأخرى، فيه تناديني الوحدة، تمسكني، تتمسك بي، و تخنقني، تذكّرني أنّه ليس لي من أحد هنا أو هناك ليؤنسني.
في عتمة الليل جرح لا يندمل، وفي ظلمات الحياة يمشي الجسد متقفيّاً طريقه على غير هدى، ربما الأمر ليس كذلك، لكن هذا ما ينتابني كل ليلة عندما أضطجع في سريري اللعين مستذكرة ما مر بي وما أمرّه. فهل هناك مَن هم مثلي؟ وهل من الأسرّة ما يشبه سريري؟.
الحريّة، كلمة يطالب بها كلّ إنسان، من الاحتلال، من الظلم، إلخ... أمّا حريّتي الّتي أبحث عنها وأريدها فليست أياً من هذه كلها، أريد التحرر من ذاتي، ممّا يقيّد تفكيري في غياهب سريري، حريتي من أحلامي وكوابيسي ـــــ على حد سواء ـــــ تلك الّتي تأخذني إلى أماكن قد لا أستطيع الهروب منها، أو إليها.
هذا ما نشعر به عندما نكون مبعدين عن حضن وطننا، فنحن نعيش في قفص الحنين إلى الحنان. لم أر وطني الأمّ يوماً بعيني المجرّدة، سمعت عنه من جدّتي، أخبرتني عن عاداته وتقاليده، عن طعامه وسحره، وأنا كنت أرى بريقاً في عينيها يشعّ مع كل كلمة يشعرني بكلّ حرف تقوله، وكل كلمة، ليسكنني هذا الوطن البعيد عني الجاري في دمي إلى الأبد.
تانيا نابلسي ــ مخيم البداوي

متى ننهض من أسرّتنا

كثير من الكلمات التي ذكرتها في رسالتك أعلاه، أخذني إلى الكثير من الأماكن، كل مكان يختلف عن الآخر بزمانه وموضعه. فالأحلام لم تعد تراودني منذ أن قتلت برصاصة جندي أراد أن يقتل أخي الصغير في حلم ما منذ زمن ما لم أعد أذكره، والنوم لم أعرفه منذ طفولتي المليئة بكوابيس النكبة، أما الحرية، فهي مجرد كلمة، لفظة لا يتعدى معناها تعريفه اللغوي، والنظريات القانونية المشتقة منه، على الأقل حسب ما أتعلمه وأدرسه هنا في الجامعة، وحسب ما أعيشه على هذه الأرض.
إنه الوطن يا صديقة، ذلك الجرح الذي لم يندمل منذ اثنين وستين عاماً، إنه الجرح الذي لا يمكن أن نتغاضى يوماً عن ألمه أو نتجرأ على لعنه.
جدتي كانت تردد أمامي فيما مضى حكايات النكبة، وكم كانت تخفي عني من التفاصيل وقتها، كم عذبتني نهاية القصة التي لم تنته، حتى صار عندي مناعة ضد جميع الصدمات، حتى بت أظن أني أكثر تحمّلاً للصدمات من سيارات (رئيس الوزراء الاسرائيلي) بنيامين نتنياهو الجديدة، المفترض أنها تحتمل، حسب الصحف هنا، انفجار عبوة ناسفة من تحتها تبلغ زنتها عشرات الأطنان من المتفجرات. عندما بدأت الكتابة، كنت أستخدم الكثير من علامات التعجب، أما الآن، فقد بدأت أتعجب من ذاتي إن تعجبت من شيء ما.
تريدين الحقيقة؟ سنظل مربوطين إلى أسرّتنا، لا نقوى على النهوض عنها، إلى أن نبصر ذلك الحلم ونستيقظ فنراه حقيقة أيضاً في يومنا ونهارنا وليلنا. يسكننا حلمٌ نريده أن يصير حقيقة ولا نقوى على تحقيقه، لأن الحقيقة الوحيدة الموجودة فعلياً، هي أننا عاجزون عن النهوض، وكلما نهض أحدنا دفعنا به للعودة إلى سريره، هكذا نضمن أننا إن نهضنا، ننهض معاً، هكذا نظن، غير مدركين أن إمكانية نهوض أحدنا قد تدفع الباقين للحاق به. سنظل أسرى أنفسنا، ما دمنا نحلم فقط. وحتى ذلك الوقت سأصلّي من كل قلبي وبكل ما يحمله من إيمان للنائمين الغارقين في أحلامهم من قمة الرأس حتى أخمص القدم، حتى يستيقظوا يوماً ما ويحاولوا النهوض.
أما أمثالنا، أولئك الذين لا يجيدون النوم، فليس لنا إلا أن نستمر بالمحاولة، فذات يوم سننجح، ربما، ذات يوم...
أنهار حجازي ــ الجليل