تطور نوعي برز في العراق أمس، بعد 208 أيام من الأزمة الحكومية. نوري المالكي بات مرشح التحالف. مهمته التالية توفير غالبية نيابية لتكليفه. المجلس الأعلى لا يزال عند رفضه، المعلن على الأقل. حزب الفضيلة خرج يناكف. وإياد علاوي ينتظر نصر السعودية... والفرج!
إيلي شلهوب
قطع رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي أكثر من نصف الطريق نحو التجديد له لولاية ثانية، مع إعلان التحالف الوطني العراقي، في ختام اجتماع عُقد أمس في بغداد بغياب المجلس الأعلى وحزب الفضيلة، ترشيحه لمنصب رئاسة الوزراء. وقال النائب عن تيار الإصلاح المنضوي ضمن الائتلاف الوطني، فالح الفياض، للصحافيين في ختام الاجتماع الذي شارك فيه هادي العامري ممثلاً لمنظمة بدر، إن التحالف الوطني اختار «بالتوافق» نوري المالكي مرشحاً له إلى رئاسة الوزراء ودعا البرلمان إلى «الانعقاد في أسرع وقت».
وكانت مقاطعة المجلس الأعلى للاجتماع متوقعة، في ضوء تطورات الأيام الماضية، وخاصةً مقاطعة المجلس لجميع اجتماعات التحالف هذا الأسبوع. وقالت مصادر من شركاء السر في المفاوضات العراقية إنه «جرى تهديد المجلس الأعلى الخميس بأنه إن لم يشارك في اجتماع التحالف الجمعة، فإن مؤتمراً صحافياً سيُعقد عند السابعة من هذا اليوم يعلن فيه هادي العامري تسمية التحالف للمالكي مرشحاً لرئاسة الحكومة» مع ما يعنيه ذلك من انشقاق لمنظمة بدر، التي لديها ما لا يقل عن 11 نائباً، عن المجلس الأعلى الذي «تصبح لائحته في هذه الحالة من 6 نواب أو 7». وأضافت المصادر نفسها إنّ «السيد محسن (شقيق السيد عمار الحكيم) زار المالكي عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم (الجمعة) وأبلغه أن المجلس يبارك ما يجري، وأن هادي العامري يمثله في اجتماعات التحالف. وعلى هذا الأساس تقرر اجتماع التحالف عند الساعة الرابعة ومعه الإعلان».
أوساط المالكي تؤكد زيارة السيد محسن، وتوضح أنه «أبلغ المالكي أنهم لن يشاركوا في اجتماع التحالف، لكنهم لن يعارضوا الإعلان الذي سيصدر عنه. لكنهم سرعان ما خرجوا إلى شاشات التلفزة يعلنون رفضهم لإعلان تسمية المالكي»، مشيرة إلى أن «الحديث عن أن العامري يمثلهم يريدونه ليستعملوه في الاتجاهين».
السيد محسن الحكيم زار المالكي عند الـ11 ظهراً وأبلغه أن المجلس لن يحضر لكنه لن يعارض
غير أن مصادر مطلعة على أجواء المجلس الأعلى تؤكد أن «ما جرى (أمس) ليس سوى اجتماع لدولة القانون مع الصدريين اللذين رشحا المالكي لرئاسة الحكومة. لا أكثر ولا أقل». وأضافت: «هذا الترشيح لا يعني أنه أصبح رئيساً للحكومة. هذا إياد علاوي، هو مرشح العراقية، هل هذا يعني أنه أصبح رئيس وزراء؟». وتابعت: «فليؤلّف المالكي حكومة إن كان قادراً على ذلك. ماذا سيفعل لو قال التحالف الكردستاني إنه لا يشارك في حكومة يقاطعها المجلس الأعلى؟ كيف سيؤلّف حكومة من دون العراقية؟ سمعت ما قاله علاوي في دمشق» في إشارة إلى حديثه عن أن «العراقية لن تشارك في حكومة يرأسها المالكي»، مشيرةً إلى أن «لديه (المالكي) الآن 139 نائباً، وهو بحاجة إلى 163، ما يعني أنّه ينقصه 24 صوتاً، لنرَ من أين سيأتي بها».
معادلة حسابية تضيف إليها مصادر معنية بهذا الملف النواب الـ11 لمنظمة بدر، التي يقول البعض إنها تسيطر على نحو ثلاثة نواب آخرين من المنضوين تحت لواء المجلس الأعلى، ما يعطي المالكي بالحد الأدنى 150 صوتاً. وتؤكد المصادر نفسها أن التحالف الكردستاني ملزم بحسب اتفاق سابق بتجيير أصواته الـ40 لمن يسميه التحالف الوطني، ما يعني أن رئاسة الحكومة مضمونة للمالكي.
من هنا يمكن فهم لماذا تروّج الأطراف المعترضة أن المالكي بات حالياً مرشح دولة القانون والتيار الصدري لا مرشح التحالف، على أمل فتح الطريق أمام الأكراد للتملص من هذا الالتزام، على الأقل جماعة مسعود البرزاني، باعتبار أن الرئيس جلال الطالباني معروف أنه ملتزم بما تقرره طهران.
ومن هنا أيضاً يصبح لمقاطعة حزب الفضيلة معنى لكونه يدعم المحاولات السالفة الذكر، برغم أنه لا يمتلك سوى سبعة نواب. غير أن مصادر مشاركة في المفاوضات تؤكد أن «مشكلة الفضيلة بسيطة وحلها أكثر بساطة». وتوضح أنه «لهم مطلب بسيط. يحق لهم بحقيبة وزارية. ذهبوا إلى المالكي قبل فترة وطلبوا أن تكون هذه الحقيبة خدمية، وقد وعدهم خيراً، رغم أنه حاول معمعة جوابه. لكن جماعته يتعاملون معهم باستخفاف، وفي بعض الأحيان بقلة احترام باعتبارهم مكوّناً صغيراً. كان طلبهم لحضور الاجتماع (يوم أمس) أن يتصل بهم أحد من دولة القانون يدعوهم إليه. لم يفعلوا».
أوساط المالكي تقول «إنهم يطلبون منا أن نحدد لهم حصتهم في الحكومة من الآن. هذا أمر ليس بيدنا. التشكيلة الحكومية صناعة المشاركين فيها جميعاً، لذلك يجب انتظار التكليف واللقاءات مع الكتل لتبيان التفاصيل»، مشيرةً إلى أن «أحدهم ذهب إلى الفضيلة وأبلغه أن دولة القانون قد اتفقت على التشكيلة الحكومية، وأنها لم تحسب لكم حساباً فيها، وهو ما أثار غضبهم». أما بخصوص الأكراد، فتؤكد هذه الأوساط «وجود قرار كردي بعدم التحالف مع العراقية».
وهناك مناورة جديدة باشرتها «العراقية» أمس باعتبارها أن التحالف الوطني قد خسر الغالبية التي يتمتع بها مع انسحاب المجلس الأعلى وحزب الفضيلة «هذا إذا سلمنا بقرار المحكمة الاتحادية» التي طالبتها كتلة علاوي بإعلانها القائمة الأكبر، وإعطائها حق تسمية رئيس الحكومة.
«شركاء السر» يؤكدون «أننا دخلنا الآن مرحلة التفاصيل. تعلم، الشيطان يكمن في التفاصيل. على المجلس الأعلى أن يعود إلى الإجماع الشيعي وإن لم يفعل فسيخرج بما لا يزيد على سبعة نواب. هم أحرار. أما التيار الصدري، فلا شك في أنه سيزيد مطالبه في المرحلة المقبلة، لكن هناك سقف جرى التوافق على عدم جواز تجاوزه وعلى الصدريين الالتزام حرصاً على مصلحة الجميع. أمّا إياد علاوي، فمن يرِد أن يبقى معه فليتفضل. ستخرج الحكومة بمكونات سنية أساسية من القائمة العراقية نفسها».
ومع بدء نفاذ الدخان الأبيض من بغداد، وتنفس أهل العراق والجوار الصعداء بعد 208 أيام من الأزمة، لا بد من مجموعة من الملاحظات:

خفّة... دم

كشفت مجريات الأزمة الأخيرة عن حال من الخفة، تعكس انعداماً في الوزن وانعداماً في الرؤية داخل البيت الشيعي العراقي، فضلاً عن أنه بدا واضحاً للعيان أن جزءاً كبيراً من المعنيين يفضلون مصلحتهم الشخصية ومصالح حزبهم على مصالح العراق، أو حتى مصالح الطائفة الشيعية.
كان واضحاً منذ البداية وجود شبه إجماع لدى المراجع المعنيين بالعراق على نوري المالكي. إجماع عبّر عنه البعض صراحةً عبر القول بضرورة السير في هذا الأخير لاعتبارات متعددة، في مقدمتها قدرته على الحصول منفرداً على 89 مقعداًً برلمانياً. أمّا البعض الآخر، فقد عبّر عنه مداورةً عبر القول بعدم جواز السير بغير رضى الجمهورية الإسلامية الإيرانية. حتى المرجع علي السيستاني كان رأيه، بحسب مصادر من شركاء السر في المفاوضات العراقية، «المالكي وإلّا فشخصية أخرى».
هددوا المجلس الأعلى بانشقاق «بدر» عبر إعلان هادي العامري بيان تسمية المالكي
هذا على المستوى الديني. أما على المستوى السياسي، فيدرك الجميع أن العراق يمر في مرحلة حساسة، يفرضها الانسحاب الأميركي، تقرر هوية البلد واصطفافاته الإقليمية على مدى سنوات مقبلة، في وقت تسعى فيه السعودية ومصر إلى إيجاد موطئ قدم لهما في بلاد الرافدين على أمل ضمه إلى حلف المعتدلين العرب. وهو ما فرض الخطوط الحمر التي عملت في إطارها جميع أطراف محور الممانعة المعنية بالوضع العراقي: أن يكون رئيس الوزراء من التحالف الوطني العراقي. منع تولي أي جهة مرتبطة بالسعودية ومصر لأي منصب أمني. ضرورة ضمان حقوق جميع مكونات الشعب العراقي بالمشاركة في السلطة، للحؤول دون تهميش أي جهة من الجهات بما يضمن الاستقرار ويثبّت العملية السياسية، وهو ما عُبر عنه بالعمل على تأليف «حكومة وحدة وطنية».
ومع ذلك، همّ التيار الصدري بدا محصوراً في الحصول على القدر الأكبر من المناصب الوزارية، الخدماتية على وجه الخصوص التي يحتاج إليها لتعزيز وضعه، مع رفضه منصب رئاسة الوزراء الذي سبق للسيد مقتدى الصدر أن قرر عدم جواز شغل التيار له في ظل الوجود الأميركي، ولو جندياً أميركياً واحداً في العراق. وضع دعمته حنكة وحرفية صدرية متناهية في خوض الانتخابات ومفاوضات تأليف الحكومة، جعلت التيار يبدو كتاجر يسعى إلى الحصول على السعر الأعلى لكتلته الانتخابية، أكثر منه كتيار سياسي رئيسي مشارك في تقرير مصير البلاد، هو الذي يعدّ الوحيد الذي بقي على موقفه المقاوم للاحتلال منذ الغزو حتى اليوم.
بل أكثر من ذلك. التيار الصدري، الذي طالما اتهم المالكي بنكث العهود، نقض قبل أسابيع اتفاقاً عقده التيار مع دولة القانون بشأن تأييد ترشيح نوري المالكي. وحتى أخيراً، بعد التوصل إلى توافق على المالكي وفق مبادئ وثوابت جرى الإجماع عليها، ظل الصدريون يتعاطون بخفة مع الحدث. فعلى سبيل المثال، رغم أن الصدريين يعرفون العقل الإيراني الذي يتعامل مع الأمور كلها، حتى الصغيرة منها، بجدّية متناهية، تكلفت مزحة من أحد قادة التيار الصدري مع قيادي إيراني كان يبحث هذا الملف مع السيد مقتدى، نحو عشرة أيام لمعالجة ذيولها.

معركة وجود

أمّا المجلس الأعلى، فتلك حكاية أخرى. تبدو معركته مع المالكي كأنها معركة وجود شخصي. معركة كينونة، من أجلها انتفض على الجميع، حتى المراجع وداعميه الإيرانيين. لم تنفع الضغوط كلها في ثنيه عن موقفه، حتى الإيرانية منها، إلى حد جعل مصادر النظام في إيران تعبّر عن عتب شديد قائلةً: «مساعداتنا لهم تجاوزت مليارات الدولارات. «زعّلنا» الأطراف العراقية كلها من أجلهم، وعندما احتجنا إليهم في ملف بهذه الأهمية بالنسبة إلينا، لم يقفوا إلى جانبنا». لا شك في أن المجلس الأعلى في موقف لا يحسد عليه: من جهة، حساباته المبدئية والمصلحة تقول بضرورة إسقاط المالكي. ومن ناحية أخرى، يعدّ جزءاً من منظومة قررت أن المصلحة في التجديد لزعيم حزب الدعوة. ولعل في كلام السيد عمار الحكيم أول من أمس ما يعبّر عن حال المجلس: «قُدمت إلينا المواقع والكراسي، وقُدمت إلينا فرص وإغراءات قيل إنها تنسجم مع ثقلنا السياسي لا مع عدد مقاعدنا النيابية، لكن المجلس الأعلى لم يدخل ضمن هذه الصفقات، ولم يبنِ سياسته ومواقفه في أي يوم من الأيام على أساس ما يحصل عليه من فرص أو مواقع». وأضاف: «أقول لأشقائنا وحلفائنا في المنطقة والعالم إنكم عرفتمونا وخبرتمونا وجربتمونا... إن سياستنا تُبنى على احترام الآخر لا الفرض على الآخر، وسنبقى نواصل هذا المنهج المبدئي الواضح كيفما كانت الظروف، وفي أي اتجاه سارت الأمور».

رابح في الحالتين

علّاوي يصارع البقاء وفاٍء للسعوديّة... وقرار كردي بعدم دعم العراقيّة
كذلك الأمر بالنسبة إلى دولة القانون، التي تشبثت ومعها حزب الدعوة والمالكي بهذا الأخير، حتى لو كان البديل الطوفان. بل بدا أن نوري المالكي هو المستفيد الأكبر مما يجري. لا يعبأ بالأزمة ولا بمداها. في النهاية هو لا يزال في رئاسة الوزراء، يمارس مهماته من دون قيد أو شرط. إن جرى التوافق وتألّفت حكومة برئاسته فخير. وإن لم يحصل ذلك، فخير أيضاً. حتى هناك من يقول إن المالكي، إن بحثت في لاوعيه، فلعله لا يريد أن يرى نهاية للأزمة التي ستقلص عدد وزرائه في الحكومة، وتحدّ من نفوذه فيها. هناك أيضاً استخفاف دولة القانون بالكتل الصغيرة. العلاقة مع حزب الفضيلة نموذج.

وفاء... سعودي

أما إياد علاوي، فقد أثبت، من خلال ممارسته خلال الفترة الماضية، أنه شخص يحكم سلوكَه وفاؤه لعلاقاته بالعائلة المالكة السعودية. تعنّته لا يمكن تفسيره بالغباوة، هو ذلك الرجل الناجح على أكثر من مستوى وصاحب الخبرة الطويلة في السياسة وفنونها. ولا يمكن تفسيره بأنه أنانية، هو الذي سبق أن أعلن مراراً وتكراراً استعداده للتنازل عن رئاسة الوزراء التي سبق أن شغلها من قبل، ولا حاجة له بها بحكم موقعه على الساحة الدولية. ولا هو وفاء لتحالفاته مع واشنطن، التي باركت ترشيح المالكي. كذلك، لا يمكن تفسير هذا الكلام الذي أدلى به من أمام بوابة الرئيس بشار الأسد، عن إيران أو عن قراره عدم المشاركة في الحكومة، سوى وفاء منه لتحالفاته السعودية، بامتداداتها المصرية التي تشمل جبهة الرفض للتوافق السوري الإيراني الأميركي الضمني على مفتاح الحل في العراق.

مشكلة بنيوية

حالة الاستعصاء التي طبعت الأزمة السياسية العراقية دفعت البعض إلى الحديث عن «مشكلة بنيوية» في النظام الانتخابي «غير العادل»، لكونه أفرز نواباً لا تنسجم أعدادهم وعدد الأصوات التي حصلت عليها الكتل التي يمثلونها. ويضيفون أن هذا النظام «شتت الساحة السياسية العراقية بين عدد كبير من المكونات السياسية والكتل التي ثبت أن الاتفاق في ما بينها صعب جداً، ما أفسح المجال أمام التدخلات الإقليمية التي زادت من تأثيرها حالة التراجع الأميركي في المنطقة والانسحاب من العراق». ويطالب هؤلاء «بتعديل النظام الانتخابي بما يقلص من عدد الكيانات والكتل السياسية، وبما يضمن أكثرية واضحة تكون قادرة على الحكم وحدها، أو بالتحالف مع كتلة واحدة أخرى».


من عجائب الدنيا

من قال إن زمن المعجزات قد ولى؟ فما حصل في العراق معجزة من الطراز الأول. الغالبية توافقت على الشخص الذي لا يريده أحد. طبعاً، الكل يذكر أن المالكي خاض الانتخابات وهو في حالة عداء مع الجميع، في الداخل والخارج. التيار الصدري (الذي حاول تسويق إبراهيم الجعفري) يتهمه بالخيانة ونكث العهود، وبقتل العديد من كوادره والتنكيل بالمئات منهم، وخاصةً في خلال حملة «صولة الفرسان» وما بعدها. المجلس الأعلى (ومرشحه عادل عبد المهدي) يطالب بإسقاطه، هو وحزب الدعوة، من الحكم. على خلاف مع الأكراد بسبب أكثر من صدام معهم حول قانون النفط وكركوك والأراضي المتنازع عليها وموضوع البشمركة. على خلاف مع جميع قادة السنة، مذ قاوم برنامج الصحوات الذي سعى الأميركيون إلى تطبيقه، مروراً بمحاولته منع العشرات منهم من الترشح تحت عنوان اجتثاث البعث. في حالة صدام مع إياد علاوي بحكم موقع كل منهما وسعيه إلى العودة إلى رئاسة الحكومة.
الآن بات المالكي يحظى، بالحد الأدنى، بدعم التيار الصدري والأكراد، الذين تعهدوا دعم من يرشحه التحالف، و«الحبل على الجرار» بحسب المثل اللبناني المعروف.
هذا داخلياً. أما على المستوى الإقليمي، فمعروف أن المالكي مرفوض سعودياً منذ اليوم الأول لتوليه رئاسة الحكومة المنتهية ولايتها، إلى الحد الذي لم يُسمح له بزيارة الرياض أبداً. كذلك فإنه مرفوض سورياً، بعد ما فعله حيال دمشق ونظامها في أعقاب تفجيرات بغداد الشهيرة، وبينها قطع العلاقات والمطالبة بمحاكمة دولية لقادتها على غرار المحكمة الخاصة بالرئيس رفيق الحريري. وكان غير مرغوب فيه تركياً لعدم استجابته لأكثر من محاولة سعت من خلالها تركيا إلى التوسط مع سنّة العراق لتفعيل العملية السياسية. كذلك حال إيران، التي لطالما عدّته حليفاً متمرداً أو بالحد الأدنى غير مطواع. وهو ما ينطبق أيضاً على موقف الولايات المتحدة منه.
بل أكثر من ذلك. كان هناك توافق سوري تركي سعودي أميركي، أملته مجموعة من العوامل التي لا مجال لذكرها، وفي مقدمها التقارب السعودي السوري، على دعم قائمة «العراقية» في الانتخابات، والدفع بزعيمها إياد علاوي إلى رئاسة الحكومة.
ورغم ذلك كله، انتهت نحو سبعة أشهر من الأزمة السياسية العراقية، بتوافق سوري أميركي إيراني على المالكي: هي واحدة من أعاجيب «الديموقراطية الأميركية».


دمشق للرياض: معكم أو من دونكم

نادر فوز
لن ترضى الأطراف العربية المؤثرة إقليمياً بتراجع نفوذها في أي ساحة مجاورة لها، لتتحوّل مناطق النفوذ الأخرى حلبات صراع تشتعل لتعويض الخسائر. بين العراق ولبنان، يجري نقاش سوري ـــــ سعودي لتحديد الثوابت والاتفاقات على التركيبات الداخلية في البلدين. أبلغ الملك عبد الله بن عبد العزيز ومعاونوه القيادة السورية أنّ المملكة مهتمّة بالعراق أكثر مما هي مهتمة بلبنان.
ويتحدث المطلعون على أجواء الاتصالات العربية بإسهاب عن الاهتزاز الذي أصاب المملكة نتيجة التسوية العراقية التي حيكت بعيداً عنها، فيما يُنتظر أن ينعكس هذا الاهتزاز في المزيد من التشدد عند فريق رئيس الحكومة سعد الحريري.
كانت الرياض مستعدّة للتنازل عن بعض الملفات الأساسية في لبنان، في مقابل تعويض تراجعها في العراق. ويأتي هذا الموقف السعودي غير المتمسّك بالساحة البنانية نتيجة الكثير من العوامل والتجارب والظروف التي أدركها السعوديون في المرحلة الأخيرة. فالقيادة السعودية باتت تعرف أن تأثيرها في بيروت، مهما كبر فلن يضاهي القوة السورية. ويتكرّر في مجالس المسؤولين السعوديين أنّ الرياض عملت ما يلزم ووفرت الدعم المعنوي والمادي لحلفائها ليفوزوا بأكثرية المجلس النيابي اللبناني وترؤس الحكومة وتحقيق الكثير من المكاسب، لكن الفشل دهم القصر الملكي الذي عجز عن تأليف المجلس الوزاري من دون الاستجابة للمطالب والشروط السورية.
حتى إنّ بعض التجارب الفاشلة لا تزال تحوم في الذاكرة السعودية، ومنها أنّ جمهور حلفائها مهما توسّع وانتشر على الأراضي اللبنانية لن ينجح في التأثير على الواقع السياسي المحكوم بالتوازنات. وباتت القيادة السعودية تعلم أيضاًَ أنّ التوتير السياسي والأمني في بيروت لن يسهم إلا في المزيد من التراجع لحلفائها، مع تأكيد العالمين بالشؤون السعودية أنّ الرئيس الحريري لم ينل الرضى السعودي لخوض حملة التصعيد الأخيرة. بل سعى الملك ومعاونوه إلى تهدئة الحريري وتقريبه من سوريا، فحددوا معه المطلوب نشره في صحيفة الشرق الأوسط.
حتى إنّ ثمة من المطلعين على النقاشات السعودية من يقول إنّ الملك كان مستعداً لتقديم بعض التسويات في ملف المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وللمحافظة على ما بقي من وجود سعودي في لبنان، لم يعد أمام الملك سوى السعي والتمسّك بإعادة تركيب الصيغة السابقة للتعاون مع سوريا، أو اتفاق الطائف 1990، وتلزيم الساحة الداخلية لدمشق التي بإمكانها المحافظة على مصالح الرياض ورجالاتها.
تزامنت محاولات الضبط السعودية لرئيس الحكومة اللبناني مع مرحلة لم تكن قد حددت فيها التسوية العراقية بعد. ولم يسِر الحريري في هذا المناخ الإيجابي لوجود أكثر من رأس داخل القيادة السعودية، والتمس أنّ المحذّرين من التعاون المطلق مع سوريا محقّون، لكون سياسة الانتفاح على دمشق لن تحقق المكاسب.
واليوم يرى أحد المقرّبين من الرئيس الحريري ومن القيادة السعودية أن على المملكة تجاوز صدمة «الضربة الاستباقية العراقية، ولو أنّ الأوان لم يفت بعد لإصلاح الأمور في بغداد». ويضيف المقرّب أنّ المملكة لن تخرق التوافق السوري ـــــ السعودي على فصل الملفات والمحافظة على الاستقرار في لبنان، وبالتالي لن تقود السعودية أي تصعيد إضافي على الساحة اللبنانية. وذلك ليس محبة أو وفاءً لسوريا، بل حرصاً على المصالح السعودية الموجودة في بيروت. حتى إنّ نقاشات أعلى قيادات تيار المستقبل الموصولة مباشرة بالمسؤولين السعوديين، كانت تشدّد في الفترة الأخيرة على أنّ دخول المملكة على خط التسوية العراقية «لن يؤدي إلى حل المأزق اللبناني، فإرضاء السعودية في العراق سيخفف من تشدد سعد الحريري في لبنان». وهو ما يعني أنّ السوري لو قدّم ما طلبه السعودي في العراق لم يكن لينال الكثير من التنازلات في لبنان، حيث يعدّ نفسه حكماً ومقرّراً. وبالتالي إما تعود الصيغة السورية ـــــ السعودية السابقة لتحكم بيروت، وإما تتشرّع أبواب العاصمة أمام معركة مفتوحة، أرضيَ السعودي في العراق أم لم يرضَ.