ألوان
ما زلت أذكر ذاك النشيد «نزلنا ع الشوارع ورفعنا الرايات/ وغنينا لبلادي أحلى الاغنيات». كنت أنشده بشغف وخاصة أن المربية اختارتني لإنشاده في مخيم صيفي تلك السنة. مثل هذه الاناشيد تترك فيك أثراً، وتحسّ بأن لها رائحة ما مختلفة. تذكُر جيداً كيف كنت تضم قبضة ساعدك الايمن وتقف مثل «ديك» متحفّز محاولاً إظهار جينات رجولة مبكرة، أنشودة تعلمتها طفلاً، وها انت ما زلت تتذكر كلماتها حتى الآن بدون ان تتلعثم بحرف، تستغل وجود اطفال بمنزلك فتجلسهم «القرفصاء» لتحفيظهم النشيد. تبحث عن الانشودة على الانترنت، وفعلاً تجدها. تبدأ بالغناء، لكنك تفاجأ بأنها تقمصت لوناً حزبياً ما. لكن وبما انك تحفظ اناشيد اخرى مثل انشودة «حزب التحرير علمنا»، تتوصل الى أن كل شيء تغيّـر. فأغاني الانتفاضة الاولى رسمت في ذاكرتنا فقط فلسطين، اما الآن فعليك أن تتأمل كل كلمة تنطق بها، وبطبيعة الحال تعود لتدور في ذهنك تلك الصورة النمطية التي اعتادها مجتمعك: فالملتحي حمساوي، أما من يلبس الاحمر فرفيق، ولون السواد يعد تحريراً، والكوفية فتحاوية، والذي يصلي الفجر في المسجد جهادي، ومن لم يصرخ لأجل أبناء غزة فتحاوي، ومن ينظر للأمور بوسطية ويفضل الحل السلمي فتحاوي أيضاً! هذه ليس أفكارك، بل افكار معظم ابناء مجتمع ترعرعت فيه، فتقرر نهاية أن تغرد مثل الحسّون بكل اصناف النشيد فينطبق عليك حينها وصف «متلوّن». فعندما أنشدت (اليويا) كنت رفيقاً، ذلك أن «ابو نسرين» أنشدها وارتبطت بصوته، وعندما غنّيت (نحني ونبوس ترابك يابو عمار) كنت فتحاوياً فأبو عمار رمز فتحاوي... فقط! وعندما لحنت أنشودة (نم في سلام) للشهيد احمد ياسين التحمت بحركة حماس، فأحمد يمثل حماس فقط!.
تختلط بداخلك الأفكار، فتقرر أن تنزع ما هو ملوّث منها، وتحضر الاطفال ذاتهم الذين حاولت تحفيظهم (نزلنا عالشوارع)، فتفاجأ بأن ذاكرتهم رفضت هذا النوع من الاناشيد وفضّلت الاحتفاظ بأنشودة «الارنب لأمو» الأكثر رواجاً برياض الأطفال.
بالله عليك مجتمع الألوان أصغ «فضّلنا في صغرنا أن نكون كتلك الحساسين الملوّنة تنشد ألسنتنا كل ما هو جميل»، فما ارتبط بفلسطين هو أجمل ما في الكون، وإن عددت تلوّننـا وصمة، فيا لحظّنا! ننشد فلسطين بكل الألوان، ونحتفظ في صدورنا بهوية فلسطينية معدومة الألوان.
خليل جاد الله - رام الله


أناشيد ضائعة

يقول المثل الشعبي «اللي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته».
في صغري، وكنت لم أتجاوز العاشرة من عمري، تعلمت أول أغنية ظلّت عالقة في رأسي إلى اليوم «عصفور طلّ من الشباك»، وتلتها «يا بحرية هيلا هيلا» ثم «أنا يوسف يا أبي»، ليس مصادفة أنها كلها لمارسيل خليفة، ذلك أن أستاذ النشيد وقتها، كان عازف عود وكان يحب مارسيل خليفة، طبعاً لم يبخل علينا بأن عرفنا إلى فيروز وعائلة الرحابنة بالمجمل، لكنه كثيراً ما أسمعنا أناشيد وأغاني تتعلق بالحرب والحرية والوطن، مثل «شادي»، «القدس العتيقة»، «زهرة المدائن». كان يرفض قطعاً أن ننشد بلغات أجنبية، لأن عوده العربي لا يعزف إلا للعربية، وكان يتجنب تعليمنا أناشيد عبرية من التي وضعت في كتاب النشيد المصادق عليه من وزارة المعارف الإسرائيلية.
لكني الآن، عندما أبحث في كتب النشيد التي يتعلمها أطفال اليوم، أو في المدارس ضمن المنهاج، لا أجد للوطن مكاناً، ولا لحب الأرض ، و«يخلف على» الأناشيد التي تغني للزيتون لتذكر الأطفال بأنها معلم من معالم أرضنا!
لا أدري إن صار تعليم الأغاني الوطنية جريمة يعاقب عليها القانون، أم أن المعلمين صاروا يعلّمون حسب هوى الطلاب، لكني أذكر أننا كنا نقول بفخر «نحن فلسطينيون وُلدنا في إسرائيل» عندما كنا نعرّف بأنفسنا (حتى أولئك الذين يقولون لي اليوم «اتركك من السياسة ما بتجيب الا وجع راس»، جميعنا كنا نقول إننا فلسطينيون. إلا أني اليوم قليلاً ما أجد من الاطفال من يجيد التعريف بنفسه، الا مَن رحم ربي وأجابني بكل براءة الأطفال «انا اسرائيلي»...
لا أدري ما السبب: المعلمون؟ الاهل؟ أم لم يعد هناك مجال للحقيقة في بلد كثرت فيه الاكاذيب وقامت دولته عليها؟ عندما تصير فلسطينيتنا جريمة، وأغانينا محرمة، وقرانا المهجرة محميات طبيعية، وأي كلمة تعارض هذا جريمة في دولة القانون هذه، أنا عن نفسي، لا أدري ما يكون الصواب حينها. أما استاذ النشيد الذي بدأت معه، فقد صار أستاذاً للغة العربية. ربما يحاول هناك أن يوصل رسالته التي بدأها معنا بطريقة اوضح، لكن للأسف لعدد أقلّ، دائماً، من الطلاب!
أنهار حجازي - الجليل