مثّل الفلسطينيّون الذين بقوا داخل المناطق الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية سنة 1948، والذين حصلوا لاحقاً على حق المواطنة في إسرائيل، وباتوا يُعرّفون، من الناحية المدنية، كمواطنين في الدولة اليهودية، تحدياً لهذه الدولة بكثير من المفاهيم وعلى كثير من المستويات
مهدي السيّد
يحظى الوجود الفلسطيني داخل الدولة العبريّة بأهمية كبيرة في حركة الصراع. هذه الأهمية تنطلق من حقيقة أن هذا الوجود يمثّل تحدياً كبيراً لهذه الدولة في مسألة وجودية، تمسّ صميم تعريف الدولة العبرية لنفسها، ألا وهي يهودية الدولة. فلسطينيو 48 يمثلون تحدياً وهاجساً للتعريف اليهودي للدولة، ومن شأن تعزيز الوجود العربي، على الصعد كلها، ولا سيما الديموغرافية منها، أن يقوّض هذا التعريف، وبالتالي أن ينسف أصل الهدف الذي عملت من أجله الحركة الصهيونية. وتزداد أهمية الوجود العربي داخل الدولة العبرية في ضوء البُعد السياسي والأمني، الذي ينطوي عليه هذا الوجود، والذي يدخل في صميم الصراع العربي ـــــ الصهيوني، ويحمل في طياته قدرة كامنة كبيرة على التأثير فيه.

مواجهة الأسرلة

تقديراً منهم لخطورة الوعي القومي لدى فلسطينيي 48 على يهودية الدولة، لجأ المسؤولون الإسرائيليون، منذ اللحظة الأولى، إلى السعي «لأسرلة» فلسطينيي 48، في محاولة لا تهدف إلى تحويلهم إلى مواطنين متساوي الحقوق مع اليهود في إسرائيل، بل لتحويلهم إلى أُناس يحملون هوية قومية مشوّهة، من خلال إعادة صياغة وعيهم بما يتلاءم مع مصالح الدولة اليهودية. بمعنى شعورهم بأن «الدولة العبرية» ليست مجرد دولة مدنية بالنسبة إليهم، بل دولة يشعرون بأنها تمثل وعيهم القومي وحسهم الوطني وبعدهم الثقافي، وأن شعاراتها ورموزها ومناسباتها تمثلهم.
من هنا بدأت محاولات الأسرلة باكراً، واستمرت حتى يومنا هذا، على الرغم من التراجع الكبير جداً، الذي أصاب مسيرتها، ولا سيما في أعقاب ازدياد الوعي القومي والديني بين فلسطينيي 48.
يمكن القول إن السلطات الإسرائيلية عملت، ولا تزال، على فرض الأسرلة من خلال مستويين مترابطين، سياسي وقومي، عبر مصادرة الوعي والموقف السياسي، وتفتيت الانتماء القومي.
على المستوى السياسي، مُنيت مساعي الأسرلة بفشل ذريع، فبعدما كانت الأحزاب الصهيونية والقوائم الانتخابية المرتبطة بها، تحصد غالبية أصوات فلسطينيي 48 خلال الانتخابات العامة، لأسباب عديدة لا يتسع المجال لتفصيلها، تراجعت كثيراً نسبة التأييد للأحزاب الصهيونية خلال العقدين الأخيرين. وعلى سبيل المثال، حصلت الأحزاب الصهيونية خلال الانتخابات الأولى التي جرت سنة 1949 على 88 في المئة من أصوات فلسطينيي 48، في مقابل 22 في المئة ذهبت إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الصهيونية بين العرب خلال انتخابات 2009، أكثر من 18 في المئة، في مقابل 85 في المئة من أصوات العرب ذهبت إلى الأحزاب العربية.
على صعيد تجزئة الانتماء القومي، سجلت مساعي الأسرلة نجاحاً معيناً في هذا المجال، حيث لجأت السلطات الإسرائيلية إلى اتباع أسلوب فرّقْ تَسُدْ لتجزئة فلسطينيي 48 من طريق التعامل معهم كمجموعة من الأقليات لضرب الرابط القومي وتفكيكه، لذلك عمدت إلى تأكيد الفوارق الدينية بين المسلمين والمسيحيين والدروز، وأبرزت خصوصية البدو، وغذّت الولاء القبلي العشائري والعائلي عبر التشديد على انقسام العرب إلى أقليات دينية وتحويل هذه الأقليات إلى أقليات سياسية وقومية. هكذا فعلت مع الطائفة الدرزية عندما فصلتها عن بقية الشعب العربي عن طريق خلق ما سمّته «القومية الدرزية» و«التراث الدرزي» الخاص. واعتمدت سياسة التجزئة أيضاً داخل كل «أقلية دينية»، فقسّمت المسلمين إلى عرب وبدو، والمسيحيين إلى يونان كاثوليك ويونان أرثوذكس وموارنة، والدروز إلى دروز دالية الكرمل ودروز الجليل، والبدو إلى قبائل أو إلى بدو النقب وبدو الشمال. وكذلك، قسّمت العرب جغرافياً أيضاً إلى عرب المثلث وعرب الجليل.
واتخذت السلطات الإسرائيلية مجموعة من الخطوات والإجراءات لتعزيز الفصل بين الدروز وغيرهم من العرب، أهمها: فرض التجنيد الإلزامي على الدروز. ولا شك في أن لتجنيد الدروز في الجيش الإسرائيلي آثاراً سلبية فادحة على مستوى الوعي القومي للدروز وعلى المستوى السياسي والاجتماعي في علاقتهم مع إخوانهم العرب من الطوائف والمناطق الأخرى، وهذا ما يخدم بالتأكيد سياسة الأسرلة الإسرائيلية.
لكن في مقابل هذه الزاوية المظلمة من محطات الأسرلة، حيث سجلت السلطات الإسرائيلية اختراقاً مهماً في جدار فلسطينيي 48، يمكن الإشارة إلى زوايا مضيئة وواعدة في مجال التصدي لظاهرة الأسرلة، أهمها ازدياد قوة التيارات من أبناء الطائفة الدرزية، داخل فلسطين وخارجها، العاملة على إحباط المساعي الإسرائيلية لأسرلة أبناء الطائفة، وازدياد الوعي القومي لدى فلسطينيي 48 من أبناء الطوائف الأخرى، وإدراكهم حقيقة المؤامرة الإسرائيلية والعمل على إجهاضها.

تحدّي يهودية الدولة

يُمثل التحدي الذي يضعه فلسطينيو 48 أمام يهودية الدولة، العلامة الفارقة الأبرز في نضالهم ضد الأسرلة، والدليل الأكثر سطوعاً على فشل مساعيها. وهذا ما تؤكده موجة التصريحات والمواقف الصادرة عن شخصيات تنتمي إلى كل أطياف القوس السياسي والفكري والاجتماعي، التي تدعو إلى ضرورة الحفاظ على يهودية الدولة وتكريس طابعها اليهودي. وطوفان التشريعات، التي يشهدها الكنيست الإسرائيلي في العقد الأخير، يرمي خصوصاً إلى الحفاظ على يهودية الدولة من خلال وضع عراقيل قانونية أمام كل المحاولات «الديموقراطية والسلمية» التي يقوم بها فلسطينيو 48 لرفض الطابع اليهودي لإسرائيل. وتشدّد المطالبات العربيّة على تعريف للدولة العبرية يضمن الحقوق المدنية والقومية، الفردية والجماعية، لفلسطينيي 48 بما ينسجم مع ما هو متعارف عليه في الديموقراطيات الغربية، كالمطالبة بأن تكون إسرائيل «دولة كل مواطنيها»، أو «ثنائية القومية»، بدل أن تكون دولة يهودية فقط، يُستثنى فيها العرب من التمتع بحقوقهم القومية التي كفلتها القوانين الدولية.
ولعل الإيجابية الكبرى، التي يمكن تسجيلها في سياق حملات التهويد الأخيرة، تكمن في انتقال المؤسسة الصهيونية الحاكمة من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع. فبعد عقود من العمل الدؤوب على «أسرلة» فلسطينيي 48، ومحاولة طمس انتمائهم القومي ومحو ذاكرتهم التاريخية والوطنية، تجد المؤسسة الصهيونية نفسها مضطرة إلى خوض صراع مقابل فلسطينيي 48 لتكريس الطابع اليهودي للدولة. والجديد في صراعها هذا نقله إلى حلبة الكنيست الإسرائيلي لقطع الطريق أمام أي نشاط سياسي وفكري يقوده فلسطينيو 48 في هذا السياق.
وهكذا، أقرّ الكنيست الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، جملة من القوانين، ترمي إلى قوننة يهودية الدولة، والحد من التزايد الديموغرافي لفلسطينيي 48، وقمع نشاطهم السياسي التغييري.
ويمكن الإشارة إلى عدد كبير من القوانين التي أُقرّت في الكنيست، وإلى عدد آخر من مشاريع واقتراحات القوانين، التي تسلك طريقها لتنضمّ إلى كتاب القوانين المليء بالعنصرية والتمييز ضد فلسطينيي 48. فقد أُدخلت تعديلات على «قانون المواطنة» تضع قيوداً أمام إمكان لمّ شمل العائلات الفلسطينية، وتُسهّل عملية تجريد العرب في إسرائيل من المواطنة بذريعة «خرق الولاء لدولة إسرائيل»، أو العمل «ضدّ الشعب اليهوديّ، أو ضدّ دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهوديّ، أو ضدّ كون دولة إسرائيل دولة يهوديّة، وصهيونيّة، وديموقراطيّة»، إضافةً إلى ربط الحصول على المواطنة بإعلان الولاء وفق النص الآتي: «ألتزمُ بالإخلاص والولاء لدولة إسرائيل كدولة يهوديّة، وصهيونيّة وديموقراطيّة، ولرموزها وقيمها...».
ومن جملة القوانين التي تسعى إلى تكريس يهودية الدولة، التعديلات التي أُدخلت على قانون أساس الكنيست، وعلى قانون أساس الأحزاب، والتي تشترط لمشاركة الأفراد أو القوائم في الانتخابات الاعتراف بيهودية الدولة، وتتيح إمكان إنهاء سَرَيان ولاية عضو كنيست بسبب رفضه وجود دولة إسرائيل كيهوديّة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الجهود المبذولة لقوننة يهودية الدولة خلال العقد الأخير، ترافقت مع تزايد الحديث عن خطورة البعد الديموغرافي لفلسطينيي 48 على الطابع اليهودي للدولة، وعلى ضرورة إيجاد السبل التي تتيح التخلص من هذا «المارد» في إطار التسوية مع السلطة الفلسطينية، ولا سيما في ظل فشل السياسات الإسرائيلية المختلفة والمتنوعة التي اتّبعت للحد من التزايد الديموغرافي للعرب، والتخوف من أن التوازن الديموغرافي بين اليهود والعرب داخل إسرائيل من شأنه أن يتجاوز، خلال سنين قليلة، الخط الأحمر للتوازن الديموغرافي داخل إسرائيل، الذي حددته دوائر القرار بمعادلة «80 في المئة من اليهود مقابل 20 في المئة من العرب».
وبناءً عليه، إذا كان ثمة من يُفكر أو يعمل على الساحة الفلسطينية من أجل إيجاد الآليات والاتفاقات الممكنة لعودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، فإن دوائر القرار الإسرائيلية تفكر في كيفية التخلص من أكبر عدد ممكن من فلسطينيي 48، تارةً عبر اقتراحات تبادل الأراضي، وتارة أخرى عبر الحديث عن حل الدولتين، اليهودية والعربية، الذي يتيح، بحسب رئيسة حزب «كديما» تسيبي ليفني، لفلسطينيي 48 تحقيق أمانيهم وأحلامهم القومية داخل الدولة الفلسطينية، في دعوة مبطنة إلى ضرورة انتقالهم إلى الدولة الفلسطينية العتيدة. مؤشرات واضحة تدل على أن فلسطينيي 48 انتقلوا من مرحلة مواجهة الأسرلة إلى مرحلة تحدي يهودية الدولة.


«خطر هدّام»

يمثّل تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، أبرز دليل على المخاوف من فلسطينيي 48، إذ يقول إن «الخطر من البيت يكون دوما هدّاماً أكثر. محاولة القيادات الإسرائيليّة غضّ النظر عن التطرّف في الوسط العربيّ هو تصرّف غبيّ ومحاولة لدفن الرأس في الرمال، رغم الثمن الباهظ الذي ندفعه يوميّاً. لا يجوز تجاهل هذه المشكلة. على الدولة اتّخاذ الإجراءات القانونيّة ضدّ المتطرّفين. هذا الموضوع لا يخصّ المحكمة العليا أو المجتمع الدوليّ. نحن لن نغمض أعيننا. علينا أن نضمن غالبيّة يهوديّة ثابتة في دولة إسرائيل.
على كلّ مواطن يعيش هنا أن يحترم وثيقة الاستقلال والطابع اليهوديّ والصهيونيّ للدولة. على الدولة تقوية الشعور بصدقيّة طريقنا وتعزيز الميراث والقيم اليهوديّة على حساب توجّهات ما بعد الصهيونيّة. ينبغي تعزيز دراسة اليهوديّة والصهيونيّة، لا دراسة النكبة وأمثال محمود درويش».