strong>وائل عبد الفتاح «يا مبارك فينك فينك»، هكذا هتف الموظفون في أول خرق لحالة «السكتة السياسية» التي أصابت حركات الاحتجاج بعد هوجة نظام حسني مبارك في ما عرف باسم «خريف الديموقراطية».
تظاهرة الموظفين، أول من أمس، حاصرت مقر مجلس الوزراء في قلب القاهرة، وأربكت الأمن الذي فوجئ بالآلاف يحتلون شارعاً من الشوارع الرئيسية ويتحدّون: «موش ماشيين من غير قرار» و«اضربونا بالرصاص».
عودة تظاهرات الاحتجاج على أوضاع الموظفين أعادت الاشتباكات العنيفة مع قوات الأمن المركزي المعتادة على فرض السيطرة بطريقة آلية، لكن موظفي مراكز المعلومات دافعوا عن خطهم الأخير في الحياة، ضياع الوظيفة، بعدما قررت الحكومة توقيف عقودهم وتوزيعهم على وزارتي الصحة والسكان، خلافاً لوعود سابقة. اشتباكات الموظفين تزامنت مع صدور حكم القضاء الإداري بإلزام رئيس الحكومة أحمد نظيف بتنفيذ حكم وضع حد أدنى لأجور العاملين في الدولة والقطاع الخاص.
المحكمة رفضت حجج الحكومة بعدم إمكان تنفيذ الحكم، والمحامي خالد علي أصرّ في دعواه على أن يكون الحد الأدنى ١٢٠٠ جنيه (٢٢٠ دولاراً تقريباً).
الحكومة أكبر من المحكمة والقانون، وهذا ما يسمى في علم حرب الشوارع «بلطجة رسمية»، وهذا ما يريد النظام أن يوصله إلى الجمهور المعتاد على المشاهدة من بعيد بمشاعر خوف وعجز وتصوّر بأن «النظام قدر لا تجوز مقاومته إلا بالتسليم».
تفكر الحكومة أولاً في تنفيذ القانون، ثم تفرض وصايتها على المجتمع بالقانون، هكذا وبعد ساعات قليلة من صدور حكم المحكمة الإدارية العليا بإلغاء الحرس الجامعي، انعقد اجتماع حكومي وخرج منه مسؤول بالتصريح
العجيب: «لن ننفذ». وتلاه مسؤول آخر بتصريحات من نوع: «من سنحاسب إذا ألغينا حرس الجامعة».
في الوقت نفسه، كانت اللجنة العليا للانتخابات تحذر مرشحي جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين لا تعترف بعضويتهم وتصف جماعتهم بالمحظورة، بعدم استخدام شعارات طائفية، وتهدد بشطب أي مرشح يرفع شعار «الإسلام هو الحل». في المقابل، مرشحو الجماعة يعلنون التحدي، رغم ما يشبه التمرّد داخل «الإخوان»، بعد فشل المفاوضات بين «المعارضة» ومكتب الإرشاد، وتكذيب المعارضة تصريحات المرشد العام محمد بديع بأن ٩٨ في المئة من الإخوان وافقوا على المشاركة في الانتخابات، وتأكيدها أن النسبة لم تتعدّ ٥١ في المئة.
رغم الانشقاق الظاهر، خرج رئيس الهيئة البرلمانية لـ«الإخوان» سعد الكتاتني ليعلن إمساك العصا من منتصفها:
«لن نترك شعار الإسلام هو الحل، إلا لو صدر حكم محكمة».
هل ما يحدث في «الإخوان» ألعاب من مخازن الجماعة المشحونة بخبرات اللعب مع الأنظمة؟ أم أنها تخبط اللحظة الغريبة للخريف؟ النظام كالعادة يتخبط، فالهجوم على القنوات الدينية التي تشحن بطاريات الطائفية، والتصدي للشعار الديني في الانتخابات، لم يمنعاه من إلغاء حفل ثقافي كبير يقام تحت عنوان «مصر لكل المصريين».
إلغاء من دون أسباب، يكشف عن رغبة النظام في إعلان وجود جبار ومسيطر، وطرد كل العناصر المستقلة مثل جمعية «مصريون ضد التمييز» المنظمة أو الداعية للحفل الذي كان من المقرر أن يقام طوال يوم الجمعة في حديقة الأزهر ويتضمن فقرات غنائية ومسرحية وشعرية تهدف، على حد تعبير المنظمين، الى إظهار التسامح كسمة أساسية للشعب المصري.
لماذا يمنع حفل يهدف الى نشر قيم تقول الحكومة إنها تمنع قنوات وتهدد مرشحين بسبب التعدي عليها؟ الحكومة تبدو ناشرة أخلاق حميدة عندما يرسل وزير الإعلام أنس الفقي خطاباً يتضمن مخالفات قناة «دريم» في أحد البرامج الرياضية، ترك فيها المذيع الضيف يتناول حياة نجم كروي بألفاظ خادشة للحياء. المذيع نفسه استخدم ألفاظاً من نفس الحزمة في أزمات أخرى أكبر (أشهرها معركة الجزائر الكبرى في أمّ درمان) ولم ينل توبيخاً أو إنذاراً، بل شعر أنه يؤدي مهمة وطنية. لكن الآن، المذيع الذي كان وطنياً يتحول الى ناشر رذيلة، لأن هوى الحكومة والنظام تغيّر، وخرجت عصا الأخلاق والحفاظ على الثوابت، بعدما كادت الحشرات أن تلتهمها في مرقدها.
الحشرات الآن جائعة تنتظر عودة العصا بعد أداء مهمتها في الترويع وتحويل الجاني الى ضحية. فالحرس الإعلامي الذي روّج للردح باعتباره لغة حوار شرعية، أصبح ضحية قبضة السلطة الغاشمة، وقتيل القوائم الممنوعة أو المهددين بدخولها.
تتذكر الحكومة أخلاقها الرشيدة، وقيم الوطن المهدورة، في وقت الشدة أو الحاجة الى تأديب وتهذيب المشاغبين، فتضرب خارجين عن القانون يعيشون تحت حمايتها، لتبرر ضربة أعم باتجاه آخرين، فيتساوى الجميع. وهذا ما يجعل التهديدات التي وصلت الى بعض مذيعين «التوك شو» تتساوى مع حملة الأخلاق الرشيدة لضبط المشهد الإعلامي.
الأخلاق والقانون سلاحان من أسلحة النظام الفتاكة في حملة الخريف.