ضغط النظام على زر «التثبيت» ولم يهتزّ سوى النخبة التي كانت تلعب في منحة الفوضى، أما غالبية المجتمع فلا تنتظر ديموقراطية، تحلم بعدل أكثر ربما، وتتصور أن العدل لن يتحقق إلا برضا الحاكم والحكومة، ولهذا تراه مستحيلاً

وائل عبد الفتاح

الثروات الهابطة على الدوائر المغلقة



ضحك سائق التاكسي قبل أن يغلق جهاز الراديو ويستأذن الراكب معه لسرد آخر نكتة وصلته في رسالة تليفونية. النكتة جنسية وبطلتها الفنانة هيفاء وهبي ومفتي الديار المصرية علي جمعة. والسائق خرج منها بحكمة عن الوضع في مصر: «كل واحد ماشي بمزاجه». المدهش كان سرعة الانتقال في الحديث من الجنس إلى السياسة والعدل المستحيل، لا كيف غادرت هيفاء وحل محلها الوزير الروسي الذي صدر قرار بإعدامه لأنه اختلس 2 مليون دولار: «فقط 2 مليون… يعني فكة بالنسبة للحال هنا».
ضحك الراكب أكثر لخيال السائق المشحون بصوت القرآن يملأ فراغ سيارته المنتمية الى قوافل التاكسي البيضاء، ونكت الجنس على جهازه المحمول، ونتف حكايات يسمعها أو يلتقطها من جريدة، وتصنع له أفق غضب أو إحباط ينتصر عليه بضحكات أو مشاركات مع زبائن عابرين، يرى فيهم جمهوراً متوقعاً استقبال حكمته: «انت بتتكلم عن العدل… آه يبقى انت مش في مصر».
والعدل غالباً ما يقود الى الفجوات المالية، يراها السائق من «المسلّمات» و«الأقدار»، وهي بالضبط وجهة نظر متشابهة مع وجهة المجلس القومي للأجور الذي أعلن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 400 جنيه (أقل من 80 دولاراً)، وهو تقريباً ثلث المأمول من نشطاء عماليين قالت حساباتهم إن المقبول هو 1200 جنية (نحو 200 دولار).
الحكومة خسرت القضية أمام محكمة القضاء الإداري، لكنها تجيد اللعب بين السطور. وقال مستشار وزير التنمية الاقتصادية إن «الحكم لم يحدد رقماً معيناً»، وهو ما رد عليه النشطاء العماليون بالقول: «الرقم الذي حدده المجلس القومي لا يؤمّن العيش الحاف (أي الخبز فقط)».
المجلس القومي للأجور يرأسه وزير التنمية الاقتصادية، وهو الآن الدكتور عثمان محمد عثمان، أحد الذين مروا بمنظمة الشباب (تركة النظام الاشتراكي)، ومن بعدها حزب التجمع (ما يشبه ائتلاف التنظيمات اليسارية). أي أنه تربى في أحضان أفكار «الدولة الاشتراكية» أو «رأسمالية الدولة»، التي ترى أنه لا يجوز أن تتفاوت الأجور والرواتب بعيداً عن نسبة 1:7 بين أعلى أجر وأدنى أجر. الوزير انتقل إلى دائرة الحزب الوطني والحكومة، ومن فكرة العدالة الى الانفلات ومن «الحفاظ على حقوق العمال» إلى شعار «الحكومة ها تعملّكوا إيه»، ومن أفكار التوازن الاجتماعي الى سياسسات خفض الضرائب على الأثرياء وترك وحش التضخم ينهش في قطاعات اجتماعية واسعة.
انتقالات الوزير ليست هي المؤثرة في ضبط فجوات الأجور لأن هذه الفجوة واحدة من ألعاب السلطة في عهد الرئيس حسني مبارك.
السلطة اختارت أو اكتشفت لعبة جهنمية اسمها «الدائرة المغلقة». من يدخل هذه الدائرة تتحول حياته الى منطقة أخرى من الرتب المالية.
يحكي وزير سابق لوزارة أساسية في تركيبة النظام، أنه عجز عن الدفاع عن نفسه في مواجهة حملة صحافية تتهمه بالفساد واستغلال منصبه لتكوين ثروات غير مشروعة عبر شركات الأبناء.
الوزير صمت ولم يعلن ما يسميه «الحقيقة»، لأنها كانت «ستقلب البلد». فالثروة لم تكن فساداً، كانت راتباً يقترب من رقم المليون جنيه. الوزير هو نقطة المركز في الدائرة المغلقة التي تضم مجموعات من المساعدين يحظون برواتب ضخمة، عبر بدلات وبنود من إبداعات البيروقراطية الحكومية، تنقلهم في لحظات الى موقع مختلف في السلّم الاجتماعي.
الانتقال ميزة في مجتمع يبحث فيه كل شخص عن ميزة: رتبة، علامة، قرابة مع السلطة، عضوية في ناد مغلق، وحتى حق وقف السيارة في منطقة الممنوع.
ميزة تضمن الولاء للسلطة التي منحته الميزة بثروتها، وتجعله وحشاً مفترساً للحفاظ على الوضع الذي أتاح له الانتقال، ويجب أن يحافظ عليه، والأهم أنه يفترس المحيطين بالدائرة ليمنع الطامحين والحالمين بها.
ولاء ودفاع شرس عن وليّ النعمة، وحرب داخلية على الدخول في الدائرة. 3 عناصر تكرس مركزية السلطة، وتؤلّه صاحب قرار الدخول في الدائرة، وخصوصاً أن الفجوة في المداخيل بين المختارين في الدائرة والبعيدين عنها مهولة، حتى لو تساوت المهارات والكفاءات والمواقع الوظيفية. وكيل وزارة داخل الدائرة ينال شهرياً على سبيل المثال 100 ألف جنيه (نحو 18 ألف دولار)، المماثل له خارج الدائرة لا يتجاوز دخله 4 آلاف جنيه (نحو 750 دولاراً).
فجوة هائلة تضبط إيقاع الحركة داخل مؤسسات في أعمدة السلطة الرئيسية: أجهزة الأمن، مؤسسات الإعلام، الهيئات المالية، والإدارات المتحكمة في خدمات الإسكان والصحة والزراعة وغيرها.
إيقاع الحركة داخل الدائرة وخارجها يضمن استقرار السلطة وتركز المفاتيح في يد دائرة صغيرة جداً تستطيع الوصول إلى أذن الرئيس، ولها قوة تأثير على قراراته بدخول الدائرة والخروج منها، كما تضمن الخروج الآمن لأبناء الدائرة وفق مبدأ (كل شيء بالقانون والأوراق سليمة).
كما أن الدائرة الجهنمية انتقلت إلى القطاع الخاص، لتصبح النمط الشائع في توزيع الثروة داخل مؤسسات إعلامية واقتصادية بعيدة عن الحكومة، لكنها تعمل ضمن آليات رسمت خريطة «الحراك الاجتماعي» في العشرين سنة الأخيرة.
حراك يقوم على انتقالات هشة، بدائية، بين الطبقات والشرائح، لتلتقي «الصفوة» الجديدة في المجتمع عند محابس ثروات تديرها يد مركزية، تشبه الجنّي في مصباح علاء الدين.
هذه الأوضاع تنشر عبادة السلطة على مستويات مختلفة، مؤيدين ومعارضين، سياسيين ورجال أعمال، كلهم لا بد أن يمدّوا خطوط اتصال مع الكهنة السريين الواصلين الى محبس الثروة الرئيسي.
وهذا سبب لا يعرفه سائق التاكسي لما يسمّيه: «العدل المستحيل».

انتخابات في الظلام



هم كهنة فعلاً. ينتشرون كما لو كانوا دعاة دين قوي ومتمترس، يدافعون عن وجودهم فوق التفاصيل الصغيرة والمناوشات، هم القبضة، والسياج، حراس يمسكون الدولة، يتوق إلى وجودهم أقوى الرافضين للنظام

مع الدولة أم مع النظام؟ السؤال مربك ويتخيل المزاج العمومي للدائرين حول السياسة والإعلام والبيزنس. إنهم مع الدولة، هذا هو خط الأمان لمن يرون أجهزة الدولة السيادية والعاملين فيها، هم حماة الدولة حتى من خطايا النظام، هم من طلبوا مقابلة الرئيس، وإبلاغه بأن الفوضى وصلت الى نقطة الخطر على مصير الدولة، الفوضى المقصودة هنا مختلفة عن الفوضى التي منحت للمجتمع في مصر بديلاً للديموقراطية، لكنها تلتقي معها في أن نهايتها على يد سلطة البيروقراطية، القارصة، النائمة بنصف عين في توابيتها، لكنها القادرة على استعادة شبابها في لحظات، ونسف كيانات تبدو لوهلة راسخة، أو لها من يحميها.
البيروقراطية تضرب من حيث لا يدري المطمئنون الى قوانين الفوضى، وهذا ما يكشف عنه الكهنة الذين يعرفون أن خروج البيروقراطية من توابيتها المنشطة، يعني أن مجالاً تنشطت فيه العناصر المستقلة مثل الصحافة، سيدفع البعض الى البحث عن تراخيص شبه ميته، وقابلة للبيع. الكهنة يعرفون خرائط التراخيص، ويتابعونها، ويحذّرون أصحابها من البيع خارج الاتفاق.
يعرف الكهنة أن البيروقراطية «ستلعب» تبعاً لأوامر ولن تعطى تراخيص جديدة للصحف قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية في 2011. مراقبة التراخيص أسلوب في السيطرة على الخريطة السياسية، وهذا هدف كبير لكهنة الدولة، يتقاطع مع هدف أصغر للحزب والنظام بمصادرة العين الكاشفة لتزوير الانتخابات.
المصادرة تحاصر وسائل الرقابة، بداية من حذف مواد الإشراف الكامل للقضاء على الانتخابات من الدستور، وهو الإشراف الذي اعطى بعض الحياة في انتخابات 2000 و2005. القضاء كان بدعة مصرية تغطي فكرة عدم وجود مؤسسات مستقلة في مصر، وعلى أساس الاستقلال النسبي للقضاء، كان الإشراف القضائي ضمانة ضاعت بعد تعديلات 2006 على الدستور، التي وضعت الإشراف القضائي بعهدة لجنة عليا يعيّنها الرئيس.
الرئيس أيضاً لا بد أن يوافق على الترخيص لسيارات النقل المباشر، وهذا يعني أن البث من لجان الانتخابات ممنوع تقريباً.
كما أن العناصر المدربة في الأمن استطاعت إحداث انشقاق بين منظمات حقوق الإنسان، ليتكون أكثر من ائتلاف، بينها واحدة من صناعة الأجهزة الأمنية كلياً، مع مشاركتها بطريقة او بأخرى في اللعب مع المنظمات بما يمنح للانتخابات شرعية، ويمنع المراقبة الحقيقية في الوقت ذاته.
انتخابات في الظلام، هذه هدية النظام مقابل الاستماع الى نصيحة الكهنة بإبعاد الابن وقتل أحلامه أمام الجمهور الغاضب.


جحيم المواهب في جنة المتوسطين



شيكابالا، لاعب نادي الزمالك المصري، يعيش غربة كاشفة في الملعب. غربة المواهب الكبيرة، الخارقة، في لحظة تعبّد متوسطي الموهبة، وتحوّله الى نجم نجوم، ما دام قابلاً للتنميط، والدخول في علب جاهزة للتوزيع كأنه سلعة مأمونة.
اسمه الرسمي محمود عبد الرازق، من قرية بالقرب من أسوان، مدينة الجنوب الساحرة. ورغم عجينتها الهادئة، فإن شيكابالا مثل اسم شهرته، مجنون، لا يشير الى شيء تقليدي، أو يخضع لمسطرة يمكن القياس عليها. هو شيطان جمهور كرة القدم وملاكه، منقذ نادي الزمالك ولعنته. لا يصلح قدوة مثل ابو تريكة، أو نموذجاً للمشاغبة الحادة مثل احمد حسام (ميدو). يغضب، يفور، يخرج عن حدود الانفعالات المعروفة في الملاعب، يخترق حاجز الأدب المعتاد، ويطير مثل طائر النار، يحرق ما بينه وبين جمهور يحفظ نجومه في ثلاجة الملائكة ويقدر نفاقهم الاجتماعي أكثر من موهبتهم.
الجمهور نفسه يطير سعادة عندما يحول شيكابالا المستحيل الى شيء عادي، تتحول المدرجات الى تراتيل فتنة، ويبدو الفتى الأسمر بالقوة الساحرة المنطلقة من قدمه اليسرى، رسول متعة لا يمكن تفاديها لحظة الغضب على شيكابالا.
هو موهبة لا تتحملها توافقات مصر في عصر قام كله على تقديس المتوسط. الوسط له قيمة وتقدير، والنجاح للمتوسط والأقل كفاءة، لا إبداعات خارقة، ولا خروج عن حدود يرسمها متوسط الموهبة. أنبياء عصر مبارك ونجومه، والقادرون على صنع سبيكة تجعل الطيران تحت الرادار ممكناً كل هذه السنوات الطويلة.
يقف شيكابالا غريباً في الملعب، غربته مع الجميع، فريقه الزمالك، والمنتخب في لحظات الرضا القليلة عنه. شيكابالا غريب عن المزاج العام.
مصر ليست الأرجنتين التي جعلت من مارادونا أيقونتها المنفلتة، المجنونة، الخارقة للعادة. البرازيل، رغم فتنتها الكروية، ارتضت بـ«الطيب» بيليه، الصاعد على مسطرة الأخلاق العامة.
مصر لا تستوعب شيكابالا، ترضى فقط بمن يقصّون الأجنحة، ويدورون برؤوسهم في حلقات ذكر ودروشة تكرر المألوف، وتخاف من التجربة والإبداع باسم الاستقرار. ومصر بلد الاعتدال والوسط. هكذا تتوه الموهبة الكبيرة، يحاصرها السياق الضيق الذي يستوعب جيوشاً من المنافقين ولا يقدر على تحمل موهبة واحدة خارج النمط، تفتح سياقاً آخر.
ولد شيكابالا في الملاعب غريباً، وسيرحل غريباً، بعد أن يترك سحره علامات على لحظة لا تستوعب موهوبيها، وتمنح نفسها كاملة للانصاف والمتوسطين.