متابعة مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ما يخص عمليّة السلام توحي أن الشخص الحالي مختلف عن ذاك الذي تولّى رئاسة الحكومة عام 1996. غير أن التمحيص يؤكّد أن الغايات المبيّتة والاستراتيجيا المعتمدة تؤدي إلى النتيجة نفسها، النابعة من الاقتناع بأنه ليس بالإمكان تحقيق اتفاق قابل للتنفيذ، لذا لا مانع من المراوغة وتحقيق المكاسب في الداخل والخارج
محمد بدير
«أنا مستعد لأن ألتقي أبو مازن في أي مكان من العالم»، «ما أريده من أبو مازن هو أن يضع يده بيدي لنبدأ معاً في البحث عن السلام»، «ما أريد قوله هو أن رام الله تبعد عن القدس 15 دقيقة، وأنا مستعد للذهاب إلى هناك للقاء أبو مازن»... يشعر المرء بالحاجة إلى أن يفرك عينيه ليتأكد من أن ما يقرأه هو فعلاً مواقف لبنيامين نتنياهو. كاد الأخير يخرج عن طوره في سعيه إلى إطلاق المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين، وقدم في سبيل ذلك مبادرات لامست حدود الممنوع إسرائيلياً: تجميد الاستيطان. جهود رئيس الوزراء الإسرائيلي أثمرت في نهاية المطاف، ومن المؤكد أنه اليوم في واشنطن يقلّب كفيه نشوةً بالإنجاز السياسي الذي تمكن من تحقيقه بعد طول مثابرة. المؤكد أيضاً، في المقابل، أن اندفاعة نتنياهو التفاوضية ليست ناجمة عن «حمّى سلام» اعترته في ولايته الجديدة التي يرأس فيها أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل.
يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل غيره أن عاماً من التفاوض ـــــ كما تحدد في إعلان استئناف المفاوضات الأميركي ـــــ لن يحقق ما لم تحققه سبعة عشر عاماً من المفاوضات، التي جرت معظمها خلال فترات أكثر سماحاً واستقراراً، في ظل قياداتٍ أكثر قدرة على اتخاذ القرارات ومنحها الشرعية اللازمة سياسياً وشعبياً. ما الذي يفسّر إذاً هذه الحماسة الاستثنائية لدى نتنياهو للدخول في تجربة معدومة الفرص، وقد تكون الإخفاقات فيها مفتوحة على احتمالاتٍ لا تصبّ في مصلحة إسرائيل (تفجير ميداني كما حصل في أعقاب كامب ديفيد 2000 أو إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد كما تلوّح سلطة رام الله). تساؤل لا بد من لملمة أجزاء المشهد التفاوضي المزمع لفهم الإجابة عنه.

بلا شروط مسبقة

من المثير أن يحاول المرء استشراف الموقف الإسرائيلي من بدء التفاوض «من دون شروط مسبقة» لو كانت الساحة الأمنية الإسرائيلية عرضة لعمليات تنفذها المقاومة وتسجل فيها خسائر مؤذية. لا يحتاج المرء إلى أن يمرن ذهنه كثيراً للوصول إلى نتيجة. تكفي العودة إلى حقبة «ربيع المفاوضات» منتصف التسعينيات لاستعادة موقف الليكود الذي تزعمه نتنياهو في حينه. آنذاك رفع الحزب اليميني شعار «لا مفاوضات في ظل الإرهاب»، رافضاً الشعار الذي كان قد أطلقه إسحق رابين قبل ذلك، وهو «سنحارب الإرهاب كأنه لا توجد مفاوضات، وسنفاوض كأنه لا يوجد إرهاب». اشتراط وقف «الإرهاب» بالنسبة إلى نتنياهو كان المدخل إلى المفاوضات، وقد استعان بهذا الشرط لعرقلة المفاوضات أو الاتفاقات التي كان يجري التوصل إليها حين كانت مصلحته السياسية تقتضي ذلك. هذه المرة، وربطاً بالمصلحة نفسها، روج نتنياهو لشعار «دون شروط مسبقة» وثابر عليه حتى تمكن من انتزاع موقف أميركي يتبناه شرطاً لاستئناف المفاوضات.

رؤية نتنياهو للحل

حدد نتنياهو قبل أيام الأسس الثلاثة للمفاوضات، وهي: الترتيبات الأمنية، الاعتراف بيهودية إسرائيل، والإقرار بوضع حد نهائي للمطالب الفلسطينية. المطلبان الأخيران يتعلقان أساساً بحق العودة ويمثّلان غطاءً لإسقاطه. أما الترتيبات الأمنية، فقد سبق لنتنياهو أن بيَّن في أكثر من مناسبة تصوره لها: وجوب أن يكون الكيان الفلسطيني العتيد منزوع السلاح، لا جيش فيه، ممنوعاً من عقد تحالفات مع أعداء إسرائيل، لا يملك حق السيادة على مجاله الجوي والأثيري وتخضع معابره الحدودية لرقابة إسرائيلية. إلى ذلك، أضاف نتنياهو حتمية أن تكون منطقة غور الأردن منطقة خاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية ربطاً بمخاوف إسرائيلية متجددة تتعلق بـ«الجبهة الشرقية» وعودتها إلى دائرة التهديدات المحتملة على الأمن القومي الإسرائيلي بفعل الانسحاب الأميركي من العراق. وفي كلمته أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك (8 تموز الماضي)، رد نتنياهو على مواقف فلسطينية أعربت عن الموافقة على مرابطة قوات أجنبية داخل الدولة العتيدة لضمان هواجس إسرائيل الأمنية، فشدد على ضرورة أن تكون الرقابة على نزع سلاح الدولة الفلسطينية بيد إسرائيل وقواتها الأمنية. كل ذلك، ولم يصل الحديث بعد إلى القدس التي ستبقى عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد والكتل الاستيطانية الكبرى التي ستكون جزءاً من إسرائيل في أي تسوية مقبلة.
رؤية نتنياهو للحل لا تمتلك الحد الأدنى من مقومات الحياة، فلسطينياً وإسرائيليّاً
في ضوء ما تقدم، لا يحتاج المرء إلى أن يكون عبقرياً لكي يتوصل إلى استنتاج مفاده أن رؤية نتنياهو للحل لا تمتلك الحد الأدنى من مقومات الحياة. ليس ذلك فقط لأن احتمال موافقة الجانب الفلسطيني عليها صفري، ولو على قاعدة أنه لن يكون بمقدور أبو مازن توقيع اتفاق لم يوافق أبو عمار على أفضل منه. هذا بحد ذاته سبب كافٍ لعدم التعويل على المفاوضات التي من الواضح أن الفلسطيني يذهب إليها يائساً. إلا أن ثمة سبباً أهم لسقوط الرهان على احتمالات التوصل إلى تسوية، هو أن إمكان إمرارها إسرائيلياً ـــــ حتى وفقاً لرؤية نتنياهو ـــــ دونها عقبات تجعلها تحاذي حد الانتحار السياسي بالنسبة إلى نتنياهو نفسه.
فخطة نتنياهو، على شروطها التعجيزية فلسطينياً، تتضمن التزاماً ضمنياً بوجوب إخلاء عشرات آلاف المستوطنين الموجودين في ما يسمى المستوطنات المعزولة التي لن تدخل ضمن نطاق السيادة الإسرائيلية في التسوية المفترضة. لا يمكن المرء أن يتخيل حكومة إسرائيل قادرة على اتخاذ قرار كهذا، وخصوصاً الحكومة الحالية التي تستند أساساً إلى أصوات اليمين المتطرف المتماهي مع المستوطنين. والأرجح أن نتنياهو قرأ جيداً تجربة أرييل شارون الذي كلفه قرار إخلاء ثمانية آلاف مستوطن من قطاع غزة تمرد نحو ثلث الكتلة البرلمانية لليكود عليه وانفراط عقد ائتلافه الحكومي. ونتنياهو الذي يجد حرجاً كبيراً في تمديد قرار تجميد البناء الاستيطاني بسبب حراجة وضعه الحكومي، يعلم أن قرار إجلاء أكثر من مئة ألف مستوطن قد يعني نهاية حياته السياسية.
وظيفة المفاوضات
يدخل نتنياهو إذاً مفاوضات يعلم مسبقاً أن فرص التوصل فيها إلى اتفاق معدومة. لا الجانب الفلسطيني سيقبل بشروطه، ولا هو نفسه قادر على دفع الأثمان السياسية الداخلية لواقع ما بعد هذه الشروط. لماذا إذاً الإصرار على إطلاق المفاوضات المباشرة والتعامل معها بوصفها إنجازاً سياسياً. الجواب على ذلك يكمن في ما يمكن تسميته بوظيفية العملية السياسية بالنسبة إلى إسرائيل. فمنذ أن انطلقت، رأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في عملية التسوية ضرورة لها على صعد مختلفة، ليس بينها تحقيق السلام بمعناه الحقيقي.
فعلى الصعيد الاقتصادي، باتت المفاوضات نفسها ـــــ بعيداً عن نتائجها ـــــ أشبه بركيزة من ركائز الاقتصاد الإسرائيلي، ربطاً بما تستدرجه من استثمارات داخلية وخارجية. وقد صرّح محافظ بنك إسرائيل أخيراً بأن 3 في المئة من مجمل الدخل القومي الإسرائيلي منوط بمجرد وجود المفاوضات.
أما على الصعيد الداخلي، فمن شأن المفاوضات أن تكسب الحكومة اليمينية الحالية شبكة أمان من الجانب اليساري والوسطي للخريطة السياسية، وهذا الأمر وجد تعبيره في تصريح رئيسة المعارضة، تسيبي ليفني، قبل أيام، حين قالت إنها لن تهاجم نتنياهو ما دام يسعى إلى السلام.
وعلى الصعيد الدولي، وهو الأهم بالنسبة إلى نتنياهو، من شأن المفاوضات أن تفك عزلة إسرائيل السياسية وتمنحها اعتماداً يغطي أداءها السياسي، وربما غير السياسي، في الملفات الأخرى. فمن جهة، يحقق نتنياهو عبر وجوده على طاولة التفاوض إعادة تموضع تخرجه من زاوية المتهم برفض السلام إلى موقع المبادر إليه. ومن جهة أخرى، تمثّل عملية السلام البيئة المثالية بالنسبة إلى إسرائيل لحشد المواقف الدولية ضد إيران والمقاومة و«محور التطرف» عموماً. وقد سلط رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين، الضوء على هذه المفارقة في محاضرة له أمام معهد أبحاث الأمن القومي قبل أشهر، حيث رأى أن أحد العوامل لتضاؤل شرعية السلوك والمواقف الإسرائيلية في المجتمع الدولي هو الهدوء الميداني المقترن بجمود العملية السياسية.
إشارة أخيرة، إلى أن تصنيف الإدارة الأميركية تحقيق السلام في الشرق الأوسط ضمن خانة المصالح القومية العليا للولايات المتحدة يضع إسرائيل المفاوِضة على خط الانسجام ـــــ الذي ظل مفقوداً لنحو عام ـــــ مع هذه الإدارة ويتيح لها توجيه اهتمامها نحو الأولويات الإسرائيلية المتعلقة بالاستحقاق النووي الإيراني. ما تقدم يوضح كيف أن انطلاق العملية السياسية يتيح لنتنياهو الكسب من كل الاتجاهات. أما بالنسبة إلى مخاطر فشل المفاوضات، فيبدو أن استراتيجية نتنياهو تلحظ هذا الأمر من زاويتين: أولاً، ثمة سابقة تبعث على الاطمئنان، هي سابقة أنابوليس الذي لم يشهد الفشل فيه انفجاراً للأوضاع كما حصل بعد كامب ديفيد 2000. ثانياً، سيكون بوسع المفاوض الإسرائيلي، الذي يربط أي تقدم في المفاوضات بالترتيبات الأمنية، إلقاء تهمة انعدام الشراكة على الجانب الفلسطيني، تماماً كما حصل بعد كامب ديفيد الذي قاد نحو عزل ياسر عرفات دولياً وعربياً. وفي السياق، قد يكون المفاوض الفلسطيني أمام استحقاق التراجع عن فكرة «إما كل شيء أو لا شيء» والقبول بفكرة الدولة على معظم أراضي الضفة الغربية بموازاة استمرار البحث في المواضيع الخلافية التي تتضمن القدس واللاجئين ويهودية إسرائيل. وإذا كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، يولي أهمية لعنوان «دولة فلسطينية» أكثر ممّا يوليه للتفاصيل، فإن التصويب الإسرائيلي على هذا العنوان سيُفلح على الأرجح في استمالة تأييد واشنطن لتكتيكها التفاوضي.


فرض الشروط

لم يقتصر نجاح نتنياهو على تعطيل الشروط الفلسطينية، بل امتد ليشمل جوانب أخرى لا تقل أهمية في الحسابات الإسرائيلية: فالمفاوضات، أولاً، ستجري من دون مرجعية وستكون هي مرجعية ذاتها كما عبّر عن ذلك نتنياهو. وهي ستجري، ثانياً، من دون إطار مبادئ يحدد الأسس التي يتفاوض الجانبان وفقاً لها. وثالثاً، لن تُستأنف من النقطة التي انتهت إليها في أنابوليس إبان حكومة إيهود أولمرت. أي إنها ستبدأ من الناحية العملية من نقطة الصفر. وإذا كانت نقطة التوازن مع هذا الأمر هي أن المسائل الجوهرية الأربع (القدس، الحدود، اللاجئون، المستوطنات) ستطرح على الطاولة مباشرة للحديث عنها، فإن الإسرائيلي حرص على اختزال هذه «الإيجابية» عبر التشديد على أن تدرُّج الأولويات عنده يبدأ ـــــ قبل أي شيء آخر ـــــ من الترتيبات الأمنية حصراً.