يتشابه منطق النظام المصري في التعامل مع الانتخابات النيابة المفترضة، مع المنطق الذي تحكيه النكتة المصرية عن ذلك القروي الساذج، الذي دخل المسجد وصلى دون وضوء، وعندما راجعه إمام المسجد بأنه لا تصح صلاة دون وضوء، رد عليه: «ما أنا صلّيت ونفع».
منطق النظام في الرد على أي حديث عن الديموقراطية وآلياتها ووسائلها وحاجتها إلى فرض رقابة شعبية، عبر البرلمان، على صانع القرار والقوانين والتشريعات، يستدعي هذه النكتة. فالواقع أن البلاد تعيش منذ أكثر من خمس سنوات دون برلمان، باستثناء مجلسي شعب وشورى أعقبا «ثورة 25 يناير»، قبل أن يُحل الأول بحكم المحكمة الدستورية، والثاني عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي. حتماً كان منطق النظام هو منطق ذلك القروي: «ما إحنا من غير برلمان ونفع».
ووفق الخطوات المعلنة في «خريطة الطريق»، التي أعقبت عزل مرسي، كان من المفترض إجراء الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية، إلى أن عدلت «الخريطة» بإجراء الانتخابات الرئاسية أولاً، مع النص في الدستور على إجراء الانتخابات البرلمانية عقب الرئاسية بمدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور، وهو ما فات أوانه وجرى تجاوزه بوقت كثير.
بعيداً عن التفاصيل القانونية لقوانين تقسيم الدوائر وإعادة توقيع الكشف الطبي على المرشحين (المعلنة أمس)، فإنّ للنظام مصالح عديدة يحققها من تأجيل الانتخابات البرلمانية، فالنظام الذي يعمل بلا رافعة شعبية ولا ظهير سياسي منظم حتى الآن، لا يريد انتخابات قبل الانتهاء من «هندسة» الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضبط إيقاع العمل بين مؤسسات الدولة، التي شهدت تفسخاً في بناها خلال السنوات الأخيرة لحكم حسني مبارك.
كذلك هو يريد إعادة تنظيم العلاقات بين المؤسسات، في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية وتصدرها المشهد مباشرة، للمرة الأولى عقب «حركة الضباط الأحرار يوليو 1952». ويرغب النظام أيضاً في إقرار عدد من القوانين المهمة وإمرارها، التي لا يمكن أن تمر بوجود مجلس النواب، لأن قبولها سيشكل إحراجاً للنائب أمام دائرته الانتخابية، مثل قانون الخدمة المدنية الصادر أخيراً، ونظمت ضده بعض الهيئات التابعة للدولة تظاهرات ووقفات احتجاجية.
في الوقت نفسه، يسعى الحكم إلى الحفاظ على تماسك جبهة مؤيديه. وبرغم بعض الخلافات الدائرة داخل تكتل مؤيدي النظام، فإن الوصول إلى التنافس الكامل بينهم في معارك انتخابية، يضمن تفكك هذه الجبهة للأبد، ويصعب ترميمها مرة أخرى، لذا كان واضحاً طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي، ذات مرة، تشكيل قائمة موحدة في الانتخابات، بالتوافق بين القوى السياسية، وهو أمر يلغي التنافسية بين الأحزاب، ما يكفي للقضاء على الحياة السياسية.
الحيوية السياسية التي شهدتها مصر عقب 25 كانون الأول 2011، تجسدت بصور مختلفة شملت الندوات السياسية والحراك الطلابي والصالونات الثقافية، التي تمددت في الفضاء العام بعيداً عن أروقة المثقفين، وكذلك التظاهرات والمسيرات والوقفات الاحتجاجية التي وصلت إلى وزارة الداخلية باعتصام أمناء الشرطة، والضباط الملتحين في وقت سابق.
هذه قطاعات كان من الصعب تصور خروجها عن طوق النظام في يوم ما، وهذه الحيوية السياسية تقلق النظام الذي تبدو رغبته في تأميم المجال العام، ووأد هذه الحيوية السياسية، واضحة، وهو يبدو متعلماً من تجربتي تغيير مر بهما المصريون في 2011 و2013. لذلك، إن وجود انتخابات تنافسية من شأنه طرح الجدل والنقاشات السياسية حول الانتخابات والقوانين، وهو أمر يحرص من في الحكم على تلافيه.
في النهاية، حتى إن جرت الانتخابات، يمكن بسهولة التنبؤ بشكل المجلس المقبل معبراً عن تشكيلة «30 يونيو»، خالياً من «الإخوان المسلمين»، مطعماً ببعض السلفيين، ورموز مبارك، ممن ارتضتهم ووافقت عليهم الأجهزة الأمنية، التي تشرف على القوائم الانتخابية، بوضوح.