أبو الروس
«محمد الحوت». «مصطفى أبو الجماجم». «علي أبو السكاكين»، وغيرها من الألقاب التي كانت تطلق على الصبيان في مخيم القاسمية. ولكل اسم طبعاً حكاية لمنح اللقب، فالحوت كان لقب محمد الذي يجيد السباحة حتى في المشروع (مشروع ريّ المزروعات)، وأبو الجماجم لمصطفى (المشكلجي)، وأبو السكاكين لعلي الذي لا يخرج من البيت من دون «المطوى» أو «السكين إم ست طقّات». أما اللقب الذي كان يحيرني لسنوات عديدة فكان «أبو الروس» الذي مُنح لمحمد وما زال يرافقه حتى اليوم، وهو ابن الخامسة والعشرين. كنتُ أفكر في هذا اللقب كثيراً. أهو أبو الروس لأن رأسه كبير؟ لا، فحجم رأسه جيد نسبةً لحجم جسده. ربما لأنه بلطجي ويضرب الأولاد الآخرين بصنديحته الفولاذية؟ لا لا، لم يفعلها يوماً هذا المسكين، فهو خلوق جداً و«مش غاوي مشاكل!». ورغم الحيرة التي كنت أشعر بها كل تلك السنوات، إلا أنني أنا أيضاً كنت أنادي محمد بأبو الروس، حتى أُمي وستي وخالي وخالتي وكل المخيم لا يزال يناديه حتى اليوم بهذا اللقب، لدرجة أنني كنت أتحدث مع شقيقتي منذ فترة عن أحوال الناس في المخيم فقالت لي: «يخزي العين حتى محمد ابن فلان حليان ومتغيّر»، فاستغربت كثيراً وسألتها عن ابن من تتحدث بالضبط فأجابت: «محمد أبو الروس!». كنا نلعب معه، نتشاطر الخمسية عند قدوم «أبو موتسيك». نبكي سوياً على خسارة شعرنا تحت «مقصلة» الحلاق «أبو علي»، وكُلما أتى لينادي علينا كي نذهب سوياً لتسلّق خزّان المياه في «حي الهيب» يقول: «أنا أبو الروس يلا مستنّيكو!»، حتى كاد هو أيضاً ينسى اسمه الحقيقي ليحتفظ باللقب، يا ترى. هل غيّر محمد اسمه على الهوية واستبدله بأبو الروس»! حسناً، «الحوت» وفهمناها، «أبو السكاكين» و«الجماجم» و«الخناجر» كمان فهمناها، لكن «أبو الروس» ليش؟ قبل مغادرة المخيم بفترة وجيزة، كنت أستيقظ في الصباح الباكر بسبب قلق الرحيل، وأكثر الأوقات بسبب الكوابيس التي كانت تراودني عن «أبو الدينين» و«أبو رجل مسلوخة» وخراريف جدتي إم ناصر المريعة التي لا تنتهي. كنتُ أقف على الشبّاك في بيت خالتي بانتظار طلوع الشمس أتأمل بستان هايل، أو ربما لكي ألمح العفاريت وأروي قصتي للأولاد عندما يستيقظون. وفي إحدى المرات، كانت الساعة لم تتجاوز السادسة عندما لمحت «أبو الروس» يجرّ رؤوس الخواريف التي ذبحها والده اللّحام ليتخلّص منها في حاوية النفايات قبل قدوم عامل النظافة عند الساعة السابعة. حينها أدركت أن الرؤوس التي لازمت لقب محمد طوال تلك السنوات ما هي إلا رؤوس الخواريف التي يتخلّص منها «مكرهاً لا بطلا»!
مخيم القاسمية ــــ إيمان بشير

■ ■ ■

ظاهرة مخيمجية

هل هي ظاهرة خاصة باللاجئين نستطيع من خلالها أن نفهم المزيد من تكوين أهلنا من اللاجئين الفلسطينيين؟ حدثني صديقي معاذ عابد عن شخصيات من مخيمه ولاحظت أنه دوماً لا يتذكر الاسم بل يذكر اللقب: فادي السريع. الانتحاري. علي ماسورة. وأبو مرسال الأسمر و «الأز» الذي أضيفت له في فترة من الفترات صفة «الخائن» فأصبح «الأز الخاين»، وغيرهم الكثير. بحثت في الفيديوهات والصور والأخبار التي ينشرها أبناء المخيم عن مخيماتهم وأبطالهم فوجدت أنه حتى الشهداء والقادة العسكريون لفصائل المقاومة الفلسطينية بعد استشهادهم يوضع لقبه أمثال شهداء مخيم بلاطة: المكيري. السنقر. القذافي. الفينيق. النينو، إضافة إلى ألقاب عسكرية مثل «جنرال المقاطعة للشهيد محمد سناقرة» أو بطل معركة النبي يوسف «النينو». حتماً لكل اسم قصة وحادثة كقصة أبو الروس، وقصة علي ماسورة الذي سمي بهذا الاسم بسبب كذبه على أصحابه. وملاحظة أخرى أن هذه التسميات ليست مقتصرة على أبناء مخيم بلاطة بل تتعداها إلى الكثير من المخيمات. لو سألنا خبيراً في علم النفس الاجتماعي فسيبدأ بتحليل معطيات المخيم من أكثر من ناحية، ولكن بفهمنا البسيط نستطيع أن نفترض أنها خصوصية من خصوصيات اللاجئين، فالتواصل المكثف بحسب اعتقادي هو سبب مهم لهذه الخصوصية وإطلاق الألقاب، ووجود تكوين نفسي خاص للناشئة في المخيم، لكن للمخيم ولألقاب الأطفال فيه نكهة خاصة تترجم حالة من الخيال والتواصل وخفة الظل. وأعتقد أن نكهة الألقاب في المخيم تعود للتقارب العمري بين السكان ولسبب لم يلتفت أحد إليه من قبل وهو أن الفئات العمرية في المخيم متقاربة، الأمر الذي يجعل دائرة الأصحاب تتسع لتصبح كبيرة إلى حد يصعب تذكر الأسماء بدون الألقاب وخصوصاً مع الأحداث السياسية. فمواليد الخمسينيات كثر، منهم سمّوا جمال محبة بعبد الناصر والعديد ممن يحملون اسم شهيد سقط من المخيم في تلك السنة وكان معروفاً لدى الجميع، سبب يمكن أن نفهم من خلاله طبيعة ألقاب طريفة يجعلنا ندرك أن محبة من نوع خاص سببت هذه الظاهرة المخيمجية.
الأردن ـــ ربى حسن