فان غوغ في انتظار «فانتازيا» اللص الوطنيوائل عبد الفتاح
اللصوص في مصر ظرفاء، اختاروا توقيتاً غريباً لسرقة لوحة فان غوغ الشهيرة «زهرة الخشخاش». السرقة جرت في عز الظهر، بحسب التعبير المصري الذي يشير إلى أنها لم تكن سرقة معتادة تجري في سترة الليل وعتمته، لكن في وضح النور الساطع، وتحت عيون لم يرهقها بعد تسلل النور.
لص محترف، قطع اللوحة بآلة حادة، وترك الإطار معلقاً على جدران قصر محمد محمود خليل باشا، عاشق الفنون، وأشهر جامع لوحات في عصره.
هل اختار اللص الوقت؟ هل كان واعياً للّحظة التي يعود فيها المصريون إلى «القرون الوسطى» الحديثة، ويجبرون على الحياة في رومانسية الشموع، ويمرون بتجربة العطش المفتوح، والسير في شوارع معتمة؟

اللوحة اختفت في منتصف سبعينيات القرن الماضي وعادت على نحو غامض

اللص ظريف، ولديه حسّ مصري ساخر، وإن لم يكن مصرياً. اللص يعرف جيداً أن المصري في رمضان كسول، مشغول برغبات حائرة، ومحاصر بمسؤوليات تتضخم على نحو خرافي، ولا ملجأ من كل هذا إلا الهرب إلى مزيد من الإفراط في العبادة. اختار اللص وقت صلاة الظهر، ليقيم في مسرح جريمته، احتفالاً بالخروج الثاني للوحة.
خروج ثانٍ لأن «زهرة الخشخاش» اختفت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعادت على نحو غامض، فيما البعض لا يزال متأكداً من أن النسخة العائدة مزورة، وأن الأصلية لا تزال لدى سارقها الأول.
المشهد العبثي اكتمل في لحظة وصول النائب العام إلى المتحف، وانهيار تمثال كيوبيد الموضوع في المدخل. التمثال تحطم إلى قطعتين «حزناً على اللوحة»، كما سخر المتابعون لمسلسل قصة «زهرة الخشخاش».
السخرية عمومية، لا تخص فقط عشاق التصوير، ولا الفن عموماً، ولا حتى قطاعات المثقفين أو المهتمين بالشأن العام، والمتصيدين لأخطاء الحكومة. الاهتمام باللوحة يعود إلى انتشار معلومة عن قيمتها المالية التي تصل إلى ٥٠ مليون دولار.
أحد الساخرين على شبكة «تويتر» كتب عن إلقاء القبض على تمثال رمسيس في مركب هجرة غير شرعية، وآخر همس لزميله في الشارع: «كل ده لأن الحكومة منعت الحشيش». أما الحكومة، فقد شاركت في السخرية، رغم أن «دمها ثقيل»، وحوّلت سريعاً الحادث إلى حرب تبادل التهم بين موظفين محدودي الموهبة والكفاءة، من الوزير إلى الخفير.
خفير متحف محمود خليل لم يعرف شيئاً عن لوحة «زهرة الخشخاش»، ولا عن فان غوغ، الذي مات فقيراً قبل أن تصل لوحته إلى ثروة مصرية.
وزير الثقافة فاروق حسني سقط في فخ موظفيه. الموظف المسؤول عن قطاع الفنون التشكيلية (محسن شعلان) أبلغه بأن اللوحة سرقت، ثم أبلغه بأنها عادت وضبطت في المطار. الوزير فرح بالخبر الثاني وجمع الصحافة العالمية ليبشرها بخبر استعادة «زهرة الخشخاش».
خبر العودة مفبرك، وفي الحالتين كان الوزير متفرجاً، كأن المتحف ليس على بعد خطوات من قصره في منيل شيحة، ولا يمر عليه أثناء رحلته في القارب إلى مكتبه في الزمالك.
المتحف من دون كاميرات، هذا ما عرفه الوزير من الموظف، الذي يردّ بأنه طلب من الوزير تخصيص ٤٠ مليون جنيه (٨ مليون دولار) لإعادة صيانة المتحف وإعادة آلة تصويره إلى العمل، وهو ما نفاه الوزير.
الرئيس حسني مبارك اتصل بفاروق حسني ليعلن القلق على اللوحة. والوزير يطمئن الرئيس بعد خبر السرقة، ويصحح معلومة العودة بعد اكتشاف أنها مفبركة. الوزير نقل الخبر عبر الموظف المسؤول عن المتحف، و٤ صحافيين، بثوا تهانئ العودة، بعد مكالمة من مندوب صحافي في المطار.
وسط كل هذا، كان فاروق حسني يتصل بوزير الداخلية، اللواء حبيب العادلي، والأخير لا يرد. لماذا؟ ألم يعلم بسرقة اللوحة؟ وأين رئيس الحكومة؟
سيناريو مشاهد ظريفة لحكومة ليست ظريفة بالمرة. حكومة تكشف عوراتها كل يوم، من أهرامات الزبالة التي جعلت رائحة العاصمة لا تطاق، وإلى العودة بالبلد كلها إلى «القرون الوسطى» الحديثة.
اللوحة سرقت في عز سطوة الأمن، وسيادة نظرية أن الشرطة تعرف «دبة النملة». ومندوب المطار أبلغ بالعثور على اللوحة من باب التعود وتصديق أن الشرطة تعثر على الجاني في ساعات قليلة، وبالفعل يجد ضباط المباحث من يعترف، وليس المهم أن يكون هو الجاني، لكنه متطوع لخدمة سمعة الأمن في مصر.
لكن «زهرة الخشخاش» لوحة نادرة، وتحتاج إلى وقت طويل لتقليدها، وإعادتها إلى إطارها في المتحف، ليظهر المسؤول ويعلن العثور على اللوحة.

الوزير فاروق حسني سقط في فخ موظفيه وأعلن خبراً مفبركاً عن ضبط اللوحة

المسلسل المصري لم ينفع مع «زهرة الخشخاش» لأن فيها جانباً منفتحاً على العالم. جانب أكبر من قيمة اللوحة المادية، يخص الثقافة والحضارة والفن. كيف تنظر الحكومة المصرية إلى هذا الجانب؟ كيف تنظر إلى ثرواتها الفنية؟
وحدهم اللصوص يعرفون قيمة ما تمتلكه مصر من ثروة. لا الوزير ولا الخفير ولا رئيس الحكومة يعرف غير لغة الاستمرار على المنصب.
وقع فاروق حسني في الفخ من جديد، لأنه يعرف أن سرقة لوحة فضيحة دولية، وأن كل ما قاله عن إنجازات في البنية التحتية للثقافة، سيظهر فشله التام. وربما كان حسني أقرب إلى الفخ، لأن لديه جزءاً لا يزال يقظاً في علاقته بالفن.
أما الحكومة فلا تعرف غير تعليمات الرئيس. وما سيحركها الآن، ويجعل وزير الداخلية يرد على وزير الثقافة، ليس الشعور بالمسؤولية، لكن لكي يظهر المانشيت المعتاد: الرئيس يهتم بزهرة الخشخاش.
وسيدفع ثمن هذا المانشيت زوار المتحف التسعة الذين كانوا موجودين يوم وقوع السرقة. هم ضحايا اهتمام الرئيس. أما اللصوص الظرفاء فهم سينافسون من كتب على جدران الإسكندرية الهتاف الشهير: ياتسيبوا الحشيش... ياتسيبوا البلد.


وقائع إهمال معلنوقال بيان للنائب العام عبد المجيد محمود (الصورة) إنه قرر «منع محسن شعلان وكيل أول وزارة الثقافة ورئيس قطاع الفنون التشكيلية و15 آخرين، بينهم مديرة متحف محمد محمود خليل، وأمناء المتحف والعاملين به من مغادرة البلاد».وبدأت النيابة العامة المصرية تحقيقاتها في الحادث واستمعت إلى أقوال 12 شخصاً من العاملين بالمتحف بشأن معلوماتهم عن سير العمل فيه ونظام تأمين اللوحات والمقتنيات الفنية والأثرية المعروضة به ونظم الحراسة الخاصة بتلك المقتنيات وكيفية معرفة وقوع الحادث. وتوصلت التحقيقات المبدئية إلى أن مرتكب، أو مرتكبي الحادث، تمكنوا من سرقة اللوحة باستخدام سلاح أبيض (مشرط)، حيث وضع أريكة أسفل اللوحة، ثم وقف عليها ليمسك باللوحة وينتزعها، تاركاً إطارها فارغاً، دون أن يشعر أحد بالسرقة أثناء حدوثها.
وكشفت التحقيقات أن البوابات الإلكترونية لكشف المعادن لا تعمل، إلى جانب تعطل الغالبية العظمى من كاميرات المراقبة، وكذلك تلف أجهزة الإنذار ضد سرقة اللوحات.