أثار إقرار المجلس النيابي جزءاً يسيراً من حقوق اللاجئين الفلسطينيين سجالاً حاداً، شمل أوسع الأوساط اللبنانية والإقليمية والدولية. لكن المعنيين بتلك الحقوق بدوا غير عابئين بما يصدر من قوانين، ولا سيما الفئات الشعبية من سكان الأحياء والأزقّة في مخيمي البارد والبداوي
روبير عبد الله
في محل صغير لبيع الخردة في مخيم البداوي يتمدد حسن أبو سامر على كرسي اختاره من بين أفضل موجودات محله. تسأله عن رأيه في ما أقره البرلمان اللبناني من حقوق للفلسطينيين، فتراه فاقداً ثقته بكل الحاضر والمستقبل «مرت ستون سنة، ولا أشعر بأن شيئاً سيتغير». فالثقة برأيه كما المحبة والإنسانية كلها انتهت، و«تخلى عنا العرب والمسلمون». و«حتى الأونروا، يضيف أبو سامر، باتت صيتاً أكثر مما هي فعل، فقد ولّى الزمان يوم كانوا يقدمون القلم والممحاة والمبراة، وأصبحنا نشتري معظم فاتورة الدواء من الصيدليات لفقدان الأدوية من المراكز الصحية المجانية».
تتوغل أكثر في أزقة أشبه بأنفاق تنبعث منها رائحة العفن والمجارير. لا تسمع إلا «خناقات» عشرات الأولاد المحشورين ضمن أمتار قليلة، هي مجالات لعبهم والتسلية. لا تلبث تلك «الخناقات» أن تتطور إلى خلافات بين الأهالي، تغذيها أجواء شهر رمضان الذي حلّ هذا العام وسط موجة حر خانق. «الخلق الضيّق» سمة الجميع. تسأل أبا محمود الذي يعمل في مطعمه مع زوجته طوال النهار لتوفير طعام رخيص بحيث يتمكن من شرائه العاطلون هنا من العمل، عن إقرار حق العمل والاستفادة من الضمان الاجتماعي، فيجيبك بضيق: «كهربا ما في، ووقت ما في لنسمع ونتابع». مستدركاً بأنها «خطوة إيجابية»، ولو أنه سمع بالخبر، لكنه لم يركز فيه كما قال. أما بعد، فيساور أبا محمود القلق والخوف من «بكرا»، وقد «عرفت مصيري انطلاقاً مما جرى في مخيم البارد، ونحن موجودون هنا بناءً على قرار سياسي أو عسكري. ثم يلزم الصمت، تشجعه على ذلك زوجته التي ترتاب إزاء أي زائر. لتشجيعهم على الكلام تشير الى صورة للشيخ الشهيد أحمد ياسين داخل المطعم، تقابلها صورة للمرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله كتب عليها «أستودعكم الله يا شعب فلسطين يا أهل المقاومة». ومع ذلك يقول أبو محمد: «أعول 12 ولداً، ولا أستطيع التحدث في السياسة، فلي جار كلفه تصريح إعلامي 9 أشهر لدى الأجهزة». ويضيف الرجل: «نحن شعب مظلوم، نعيش في بيوت سقوفها من تنك، حتى إن أحد أبنائي أثناء مطاردة رفيقه، سقط لأنه وقف على حافة صفيحة من التنك كانت ممتدة خارج الحديد الذي يحملها فارتطم رأسه بكتلة صلبه وانقسم نصفين»!
أعطني تيكيت طيارة إلى أي دولة لكي أترك وأمشي الآن
الطامة الكبرى تظهر لدى مقابلة أحد مهجري مخيم البارد الذي لم يرفض الإفصاح عن اسمه خوفاً من أي شيء، بل خجلاً مما آلت إليه أوضاعه بعدما كان يملك شقة ومحلاً خسرهما من دون أي تعويض، وصار يسكن في أحد الكاراجات و«يتفرج على الرايح والجاي». هذا المهجّر غير معنيّ بحقوق العمل «فأنا أشتري الخزائن والكراسي العتيقة أصلحها بيدي ومن ثم أبيعها». ابن البارد لا يريد شيئاً من أحد «فقط حياة عادية مثل العالم». ابن البارد هذا يختصر موقفه بـ«يأس وملل وفقدان الأمل». حتى نظرته الدينية غاب عنها أي رجاء وأية قوة، فصارت امتداداً وتسويغاً لواقعه. إذ وصف تدمير المخيم «بالتدبير الإلهي الذي لا اعتراض عليه»، حتى إذا ما ألححت عليه بعد محاولات استنهاض معنوياته بالاستناد إلى الماضي الفلسطيني المقاوم في لبنان والعالم وإلى حاضر أهل غزة الصامدين، ينتفض وينتقل إلى آخر محله المفتوح على قارعة الطريق ليشير إلى ما سمّاه زريبة يُسكِن فيها عائلته بعدما خسر ثمار جهده المتراكم على مدى أعوامه الستين»، ثم يسأل: «كم من العمر بقي للحديث عن المستقبل والأمل؟».
أما أبو طارق الذي يعمل في محل لبيع الأدوات الكهربائية، ويظهر في هندامه وهيئة محله بعض البحبوحة، فإنه يعبّر عن اهتمام بالغ ومتابعة دقيقة لملف الحقوق المدنية للفلسطينيين. ومع ذلك يقول: «حسناً، القرار اتخذ، لكن متى التنفيذ؟ وما هي الآلية؟ وإذا حولونا إلى الضمان الاجتماعي، فهل تتوقف تقديمات الأونروا؟ وهل من صفقة تشير إلى بداية توطين؟»، وسلسلة أسئلة لا تنتهي. إذ ثمة برأيه أمور تجري تحت الطاولة، وصفقات تبرم «على ظهر الفلسطيني»، في ظل حالة لبنانية حرجة وانقسام سياسي يسيطَر عليه عبر تسويات يعزز من مخاطرها الانقسام الحاصل على الصعيد الفلسطيني بين سلطة ومعارضة، لا يعبّر عن مناخ صحي؛ لأن الانقسام في ظل الاحتلال ممنوع، وخصوصاً أن الفلسطينيين باتوا متروكين إلى مصيرهم المجهول، حتى بات الكل يفكر كيف يهاجر «أعطني تيكيت طيارة إلى أي دولة لكي أترك وأمشي الآن».
بخلاف الأصوات الخافتة التي يسيطر عليها اليأس والحذر أو ادعاء الاتزان في مقاربة الأمور، عاجلنا عجوز بالرد بمجرد التلفظ بعبارة الدولة اللبنانية قائلاً: «نحن لا نشحذ من أحد، وخصوصاً ذلك الفريق الذي نعرفه جيداً، ويعرف كم استفاد من الفلسطينيين، سواء بالنسبة إلى رؤوس أموالهم، أو بالنسبة إلى الأيدي العاملة الرخيصة». العجوز أفصح لاحقاً عن أنه كان ضابط ارتباط في حركة فتح برتبة عالية ويأسف لتعيين الحركة في يوم من الأيام أمين الجميّل محامياً في صفوفها، وكاد يقول «في فمه ماء» إذ لا يريد أن ينكأ جراح الماضي في تحميله حركة فتح والقوات السورية سواء بسواء مسؤولية تردي الواقع الوطني في لبنان وتركهم المجال واسعاً لمزايدات أفرقاء معروفي الانتماءات والتوجهات.


كل الناس كوم، وسكان البراكسات في هذا الحر اللاهب كوم آخر. ففي مخيم البارد ما زال الكثيرون يسكنون في علب معدنية هي البراكسات، هذه العلب الأشبه بمعسكرات الإعتقال سميت مجمعات مؤقتة، يخشى أهالي البارد كما يقول عضو اللجنة الشعبية أبو علاء محمد أن تصبح دائمة. يضيف أن الهم الأكبر هو إعادة إعمار المخيم، لكن العملية تجري ببطء شديد، فإن وعدوا بتسليم الرزمة الأولى مطلع العام المقبل، فمتى تُسلَّم الرزم السبع الباقية؟ ويختم الرجل قائلاً إن التأخر في إعادة إعمار المخيم أسوأ بكثير من عدم إقرار حقوق اللاجئين المدنية.