القاهرة تخشى توجّهاً صداميّاً في سياسة الخرطومجمانة فرحات
لم تكد تمضي أيام على اختياره وزيراً لخارجية السودان، حتى أشعل علي كرتي أزمة دبلوماسية مع مصر بانتقاداته للدور المصري الضعيف في بلاده، ومعلومات القاهرة المغلوطة عن السودان. أزمة سارع الطرفان إلى احتوائها وسط خشية مصرية من أن تكون انتقادات كرتي مقدمة لتوجّه سوداني جديد في التعاطي مع القاهرة، عزّزته أول من أمس تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير عن منطقة حلايب المتنازع عليها بين البلدين.
والتخوّفات المصرية من تصريحات كرتي يبرّرها ما يمثله وزير الخارجية الجديد في تركيبة النظام، باعتباره من بين الأكثر قرباً من البشير.
ولذلك، رأى البعض في اختيار البشير لكرتي، القيادي السابق في قوات الدفاع الشعبي، إشارة إلى توجّه صدامي في السياسة الخارجية للحكومة السودانية، وذلك في تناقض واضح مع ما كان المسؤولون السودانيون يروّجون له من ضرورة اتّسام المرحلة المقبلة بالتعاطي الإيجابي مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة، وذلك حتى إمرار استفتاء تحديد مصير الجنوب بسلام.
وما يزيد القلق المصري، أنه خلال فترة عمل الحكومة السابقة وتسلّم الحركة الشعبية لتحرير السودان حقيبة وزارة الخارجية، كانت السياسة الخارجية للحكومة، ومن ورائها حزب المؤتمر الوطني، يتولّاها مستشارو البشير المقرّبون، وتحديداً مصطفى عثمان إسماعيل ونافع علي نافع.
أما اليوم وقد عادت وزارة الخارجية إلى الحزب الحاكم، فأصبح كل ما يصدر عن الوزير جزءاً لا يتجزّأ من سياسة الحكومة السودانية.
العلاقة مع حركات المقاومة وإيران تثير استياء القاهرة من الخرطوم
ومن هذا المنطلق يمكن فهم الهواجس المصرية تجاه علاقتها مع السودان، التي شهدت تقلّبات واضحة خلال العقود الأخيرة، وتحديداً في عهد الرئيس المصري حسني مبارك، وصلت إلى أوج توتراتها في تسعينيات القرن الماضي، عندما اتّهم النظام السوداني بالوقوف وراء محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995.
سنوات مرت قبل أن يعاد تطبيع العلاقة بين البلدين، لتبقى وتيرتها رهناً بالمستجدات، على الرغم من وجود مسلّمات عديدة تفرض على القاهرة التنسيق المتواصل مع الخرطوم. فالسودان، بحدوده الجغرافية المتصلة مع مصر، يمثّل عمقاً استراتيجياً لها. ومن البديهي أنّ الأزمات التي يواجهها على كثرتها، لن تكون بلا تأثير على الأمن المصري القومي، وهو ما يفسّر تولي رئيس جهاز الاستخبارات عمر سليمان، إلى جانب وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، ملف إدارة العلاقات بين البلدين، وفي مقدمتها ملف تقاسم مياه النيل.
وفرضت مياه النيل، ذات الأهمية الاستراتيجية والقومية، تنسيقاً متواصلاً بين البلدين، ولا سيما في الآونة الأخيرة، بعدما وقفت دول المنبع في وجه السودان ومصر بوصفهما دولتي المصبّ، للمطالبة بإعادة تقسيم حصص المياه.
إلاّ أن وجود ملفات عالقة أبقى عدم الثبات في العلاقة، أبرزها موقف الخرطوم من حركات المقاومة في العالم العربي وتحديداً «حماس». إذ تحتفظ الخرطوم بعلاقات جيدة مع رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، وسط اتهامات للخرطوم بأنها تحوّلت إلى ممر لتهريب السلاح إلى غزّة بعد الحصار الإسرائيلي على القطاع، وهو ما كان الجانب السوداني يحرص على نفيه مراراً.
كذلك تأتي العلاقة مع طهران كأحد عوامل قلق القاهرة من الخرطوم. فالسودان ينظر إلى علاقته مع إيران بوصفها «علاقة بين دولتين سيّدتين تتبادلان المصالح»، رافضاً أيّ تلميح إلى أنه «وكيل للجمهورية الإسلامية في المنطقة» يمكن أن يُستخدَم للتآمر على الدول المجاورة له، وتحديداً مصر.
مصر ترى في السودان عمقاً استراتيجياً لها يؤثّر في أمنها القومي
أما الملف الخلافي الثالث، فيبرز من خلال مثلّث حلايب، المتنازع عليه بين الطرفين. ويأتي قول البشير أول من أمس بأنّ «حلايب سودانية وستظل سودانية»، ليؤكد أنّ الملف سيبقى من ضمن عوامل عديدة أسهمت في خسارة نفوذ مصر في السودان. خسارة وصلت إلى ذروتها مع دخول الدوحة طرفاً أساسياً في المفاوضات الأممية بشأن السلام في إقليم دارفور، بعدما كانت القاهرة جزءاً من الحراك الإقليمي والدولي لإنجازه. ما فسر الغضب السوداني من استقبال مصر لزعيم حركة تحرير السودان، خليل إبراهيم، الشهر الماضي، بالتزامن مع تعثر المفاوضات. وهو ما سارع وفد مصري زار السودان خلال الأيام القليلة الماضية إلى توضيحه، مؤكّداً أنّ القاهرة كانت تسعى إلى إقناع خليل، الذي لجأ إلى ليبيا أخيراً، بالعودة إلى الدوحة.
كذلك ألقت تحركات المعارضة السودانية في الشمال، وزيارات عدد من قادتها مصر، بظلالها على علاقات البلدين.
وإن كان ملف السلام في إقليم دارفور قد أصبح خارج الحسابات المصرية، فإنّ القاهرة لا تزال إلى حد بعيد ممسكة بملف العلاقة بين شريكي السلام في السودان. وأداء القاهرة دور الوسيط بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان يعدّ أمراً أساسياً بالنسبة إلى أمنها القومي، وسط خشيتها من اختيار الجنوبيين للانفصال، ولا سيما أنّ القاهرة تهدف إلى الحفاظ على مصالحها الحيوية في الجنوب، الذي يعدّ ممراً إجبارياً لمياه النيل المتحكّمة في مصير المصريّين حكومةً وشعباً.
كذلك أدّت القاهرة دوراً أساسياً، وتحديداً على الصعيد الأفريقي، في إجهاض مذكّرة الاعتقال الصادرة بحق البشير من جانب المحكمة الجنائية الدولية، لتثبت بذلك للخرطوم أنّ ضرورات التقارب تفرض نفسها في علاقات البلدين.


«مثلث حلايب المحتل»

عاد أمس مصطلح «مثلث حلايب المحتل» إلى عناوين الصحافة السودانية في توصيف السيطرة المصرية على المنطقة المتنازع عليها بين القاهرة والخرطوم، بعد يوم واحد من تأكيد الرئيس السوداني عمر البشير أن المنطقة «سودانية وستظل سودانية».
ونقلت صحيفة «السوداني»، أمس، عن القيادي في المؤتمر الوطني عيسي الحسن كرب قوله إنه بسبب فشل جميع الحلول الودّية التي طرحتها الحكومة السودانية لمصر بشأن حلايب، «لا بد للحكومة السودانية من السير في اتجاه تفعيل المطالبة بالاحتكام إلى محكمة العدل الدولية»، على وقع ما قالت الصحيفة إنه شكوى سكان المثلث الذين يحمل معظمهم الجنسية المصرية من «أوضاع بالغة من الإذلال المصري والكبت ومصادرة الحريات».
وكان الخلاف بشأن المنطقة قد أثير من جديد مع الانتخابات السودانية في شهر نيسان الماضي، بعد قبول مفوضية الانتخابات الاعتراض الذي تقدم به عدد من أبناء المنطقة، وفي مقدمتهم جبهة الشرق، احتجاجاً على عدم اعتماد المثلث ضمن الدوائر الانتخابية السودانية، قبل أن تتراجع المفوضية عن قراراها وسط اتهامات رئيس مؤتمر البجا ـ الإصلاح والتنمية ـ عثمان موسى بانوين للحكومة السودانية بأنها «باعت حلايب بمساومة رخيصة مع الحكومة المصرية».
إلّا أن جذور الخلاف على أحقية المثلث الواقع على البحر الأحمر، ويضم ثلاث بلدات كبرى هي حلايب وأبو رماد وشلاتين على مساحة أكثر من عشرين ألف كيلومتر مربع، تعود إلى عهد الاحتلال البريطاني.
وبعدما حددت اتفاقية الاحتلال البريطاني لعام 1899 مثلث حلايب ضمن مناطق خط عرض 22 شمالاً وأخضعته للنفوذ المصري، أتبع الاحتلال في عام 1902 المثلث للإدارة السودانية، معتبراً أنه أقرب إلى الخرطوم منه إلى القاهرة. سنوات عديدة مرّت قبل أن تثير الاكتشافات النفطية إلى جانب الثروات الطبيعية في المنطقة قضية أحقية كلا البلدين في السيطرة على المثلث، وتحديداً في عام 1992، عندما منح السودان لشركة كندية الحق في التنقيب عن النفط في المياه المقابلة للمثلث، ما أثار اعتراضاً مصرياً أدى في نهاية المطاف إلى انسحاب الشركة.
وعلى وقع الخلافات بين البلدين، أبقى السودان على عدد من قواته في المنطقة، قبل أن يقدم على سحبها في عام 2000 لتحل مكانها قوات مصرية. ومنذ ذلك الحين، تعتمد السلطات السودانية مبدأ المناورة في قضية حلايب، لتخفت مطالبتها بالمثلث حيناً وترتفع حيناً آخر.


نقلت العديد من الصحف تصريحات لوزير الخارجية السوداني، علي كرتي، انتقد فيها «دور مصر الضعيف تجاه القضايا السودانية»، واصفاً إياه بأنه «لا يزال متواضعاً تجاه قضايا مهمّة تؤثر في العمق الاستراتيجي لها». كذلك شكا من «ضعف معلومات مصر عن الحياة السياسية في السودان وتعقيداتها».
وهو ما رفضته مصر، بتأكيدها أنها «تقف إلى جانب السودان فى جميع قضاياه»، قبل أنّ تعود الخرطوم وتحاول التقليل من أهمية «سوء الفهم الذي تعرّضت له تصريحات» كرتي.