ماذا يحدث عندما يصيب الاكتئاب المجتمع والحاكم؟ الصور الآتية من مصر تقول إن الاكتئاب لم يعد قاصراً على ربع المصريين كما قالت أرقام سابقة، ربما لا يكون اكتئاباً بالمعنى العلمي، ولكنها تعاسة يشترك فيها الحاكم والمحكوم، لكن بالطبع التعاسة أنواع
وائل عبد الفتاح

العلامات الإيجابيّة للإرهاق السياسي



الصور الأخيرة للرئيس حسني مبارك تكشف عن مشاعر جديدة عليه الى حد كبير. هو من النوع الذي لا تظهر مشاعره، ولا انفعالاته أمام الكاميرا، يبدو في معطم الصور لامبالياً، ملامحه راضية، مستقرة، مكتفية. مبارك في الصور الأخيرة مرهق. وحارسه أيضاً في إحدى هذه الصور، يظهر كمرآة لمشاعر رئيسه المفتقد السعادة. بدا عليهما معاً إرهاق المفارق لسلطته. تعاسة من نوع خاص، ترهل جلد الوجه، وانفصال عن لمعان اللون الأسود للشعر، منطقتان زمنيتان في وجه واحد يشعر بالفقد الكبير للقوة.
مشاعر قد تكون عابرة على وجه الرئيس، لكنها كاشفة عن شعور بغياب السعادة.
لماذا؟ هل لأنه سيفارق المقعد الذي جلس عليه 30 سنة؟ هل توحّد معه الى هذه الدرجة؟ هل طريقة الفراق مهمة؟ السلطة تنتصر على الشيخوخة. تضخ حياة جديدة وقوة خارج الزمن، كما حدث مع الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، الذي بدأ حياته حين حكم أميركا وغير العالم بأفكار وسياسات، وانتهى تقريباً عندما غادر السلطة وأصيب بمرض الزهايمر وكان يختبئ في الخزانة لساعات، وعندما يخرجونه يظل يبكي.
في مصر، هذه الحالة موجودة بقوة. وتقريباً كل الجالسين على السلطة بدأوا حياتهم في سن الشيخوخة. كلهم بمن فيهم الرئيس مبارك عرفوا متع الحياة قبل السن التي يعتقد فيها الناس أن عليهم الاستعداد للوداع.
هل يمكن أن يكون الرحيل عن السلطة انسحاباً للحياة كلها، ولهذا يدافع مبارك ورجاله الكبار عن الخلود لأن السلطة تعني بالنسبة إليهم حياة؟
التوحد مع المقعد الكبير سرّ تعاسة وقلق، لكنهما مع مبارك أعراض حديثة، ترتبط بالسن وتجاوز المدة للمتعارف عليه بين حكام ما بعد تموز 1952. هكذا فإن حال مبارك وقدرته على الحكم لا تتأثر بالأمراض، ولكن بالقدرات الحيوية للجسد والعقل، وهذه قدرات يمكنها أن تخذل صاحبها، وتجعله يرى في حياته صراع الخلافة، أو ربما يلمس خطوة من الأقرب للمقعد، باتجاه أن يحجز مكانه قبل آخرين، أو يثبت موقعه قبل أن يختفي صاحب السلطة، والمتوحد معها وجودياً وبيولوجياً.
أهل التشاؤم في مصر يتصوّرون بالخيال الدرامي الكلاسيكي، أن الأب مريض، والابن (جمال مبارك) يعلن عودته، أو يستعد للقفز على الكرسي.
التشاؤم له قوة على أرض الصراع السياسي في مصر، قوة صنعت وجود جمال مبارك نفسه. فهو ابن اليأس الجماعي، فلن يصل جمال الى الرئاسة إلا على جسور اليأس من التغيير، أو فقدان الأمل الكامل في أن يكون اختيار الرئيس بإرادة مجتمع، وليس من خلف الكواليس في غرف الكهنة الغامضة.
جمال مبارك صناعة الشهوة الجارفة لاحتكار كل شيء: السلطة والثروة والزمن.
ملامح وجه جمال تميل دائماً الى نوع من اكتئاب ينتاب الذين يسألون أنفسهم: حولي كل شيء. كل ما أحتاجه ملك يدي؟ اكتئاب يشبه أبناء الأثرياء، الثراء المذهل بلا حدود، ماذا سيفعلون؟ لماذا يعملون ما دام كل شيء ملك أيديهم؟
المعاناة تمنح متعة لا يعرفها إلا من حرم منها. هذا ما يشعر به جمال، يرى أن منطق الأمور أن تسقط السلطة في حجره، لماذا إذاً كل الصعوبات؟ لماذا كل المجهود الذي يجعله مرة يبدو متعالياً ومرات يحاول أن يكون شعبياً، ومرات يراضي الحرس القديم، وأخيراً يحاول أن يركب موجات حقوق الإنسان ويبكي على العدالة المهدورة. لماذا كل هذا المجهود اذا كان اليقين المستقر لدى الابن أنه سيرث أبيه؟
هل هذا هو سر ملامح الضيق والتبرم الملتصقة في وجهه؟
يمكن تخيل مشاعره التي يرى فيها عدم ضرورة للسير في الشوارع اذا كان هنا إمكان للقفز بالمظلات. ولماذا انتشر اليأس من قدرة المجتمع على التغيير ما دمت قادراً على فرض التغيير من أعلى؟
هل هذه ضريبة أن تكون على مزاج الليبرالية الأميركية التي لا تمانع في الاستبداد، لكن بشرط الأناقة؟ أم لكي لا استفز شعباً ومؤسسات قديمة يستفزها تحويل حكم مصر الى لعبة يلهو بها أطفال العائلات الحاكمة؟
هذا تفكير الشاب الذي استدعته قوى غامضة من البنك الذي يعمل فيه في لندن، لكي يؤدي دوراً ويحقق أمنيات لم يفكر بها، لكنها أعجبته.
كلما ظن البعض أن مشروع جمال مبارك مات أو شبع يأساً، يعود ويظهر مثل الثعبان في كابوس، كلما قطعت رأسه عاد ليبني جسده من جديد.
جمال مبارك ابن تركيبة الحكم الخالدة، الجيل الثالث من ورثة جنرالات التحرير، وحربه الكبرى هي استمرار النظام أو مصالح النخبة المتحلقة حول النظام، وهي نخبة اختصرت الدولة كلها في كهنة لو اختفوا فسيهتز الاستقرار، لأنه لا أحد غيرهم يعرف الأسرار. ولا أحد يملك أن يقدم ما يقدمونه للقوى الكبرى في العالم.
ولمن مثل جمال مبارك، الذي يرى أن العنب في متناول يديه، يشعر بالملل من عملية تحويله الى النبيذ، القطف والعصر، لماذا يقنع جمال مبارك أن استبداده أنيق، ويقنع الشعب المصري أنه عطوف وهزته قصة خالد سعيد، فأطلق تصريحاً عن عدم الرضى عن إهدار العدالة.
لماذا كل هذا المجهود؟ من حق جمال مبارك أن يسأل نفسه.
وسيقولون له إن هذه هي السياسة في شعوب تحتاج الى سحرة وحواة ليحكموها.
وسيقولون كلاماً كثيراً. لكنه سيصيب جمال بالاكتئاب، وسيصيب المجتمع الذي سيسقط عليه التغيير من أعلى.
من هنا قوة كلام المتشائم. لكنها في الحقيقة قوة قديمة. وتتعامل مع السياسة بطريقة السحر والمعجزات.
السياسة عمل طويل وبناء، لا يمكن أن يبنيه في أيام إلا المارد في قمقم يظهر لاسماعيل ياسين أو فريد الأطرش. وكلما شعر جمال مبارك بالإرهاق، فهذه علامة إيجابية.

وصفة «الترامادول» للاستقرار



قد لا يكون مفهوم الاستقرار بحاجة إلى وصفة طبية أو تركيبة كيميائيّة. غير أن الوضع في مصر مختلف، فجأة بات هناك دواء منتشر قد يكون خير وصفة للاستقرار

«الترامادول... الترامادول». لم يعد الأمر يحتاج إلى نصيحة، تحوّل مسكّن الألم القوي المستخدم في العمليات الجراحية، الى أحد أدوية السعادة، تأثيره علمياً يشبه مخدّر الكوديين، ويتوجّه الى نفس مستقبلات المورفين، لكنه رخيص ويساعد على تحمل أعمال شاقة لأكثر من 12 ساعة.
وأخيراً اكتشف طبيب مصري قدرات في الدواء لم تكن في حسبان مخترعيه، اكتشاف يناسب قلق الرجال المصريين من «القذف المبكر» في الجنس. وهو قلق شائع يعالجه الترامادول ليضاف الى سحر المسكّن الذي يعطل مستقبلات الألم، ويصيب بنوع من البلادة. بلادة ملحوظة هذه الأيام عند من يتعامل يومياً في شوارع القاهرة وتدهشه النظرات الشاردة، واللامبالاة عندما يصطدم الجسد بأجساد العابرين أو في لحظات فوضى المرور.
لا يخشى نادي عشاق الترامادول من الإدمان. الدواء رخيص بالنسبة إلى تأثيره. المغلّف رسمياً بجنيهين وضعته الدولة على جدول المخدرات الممنوعة، ولا يُصرف بغير أمر الطبيب.
العشاق تضاعفت أعدادهم، راجت التجارة الريعية ليصبح المغلّف بخمسين جنيهاً، يغطي الإنتاج المصري منه ما يقترب من 500 ألف مغلّف. تعرف الأجهزة الصحية مساره لأنه مسجل في دفاتر الشركات المنتجة، إلا أنه وعلى نحو مفاجئ صدر قرار بإلغاء الإنتاج المحلي ومنع تداوله نهائياً. وفي اليوم نفسه، وعلى ذمة أحد عشاق الترامادول الأوائل، «تمت تغطية السوق بآلاف من المغلّفات المستوردة مجهولة المصدر».
تضخمت التجارة السرية وأصبح سعر المغلّف 100 جنيه على الأقل، وتضاعفت أعداد المنتظرين سحر الترامادول، وإن كانت نتيجته تدمير مستقبلات الألم الى درجة لا يتحمل فيها المدمن مرور الهواء العادي على جسده لأنه يسبب له الألم.
هواة يهربون من الم الحياة الى ادمان حبوب السعادة المنتظرة، وهو انتقال ينشر حالة السلام والاستقرار، ويحول المصريين الى «مخلوقات بيضاء» تتحمل الألم... وفقط.
التحمل هنا هو منتهى السعادة، لكي تمر الحياة سريعاً بدون ألم، وهذا أقصى طموح قطاعات واسعة لا تقدر على مواجهة الحياة الا بعد بلع ترامادول صباحاً.
الشريط ساحر في تخليص المهام الصعبة في الحكومة، يضعه طالب الحاجة بدلاً من النقود تحت الطلب أو في الدرج المفتوح، يبتسم الموظف وتنتهي المصلحة.
الترامادول عملة متداولة بين الباحثين عن السعادة، تلغي الألم، وتصنع في عشاقها دائرة بيضاء تتوقف فيها مشاعر الألم أو تلغى الى ان يأتي موعد القرص الآخر.
مواعيد مع تمويت الألم، ليبقى كل شيء مكانه، على ما يرام. وهذا هو المعنى الذي يمنحه الترامادول للاستقرار.

سيرك غير مرح للمجرمين



هتف القاتل: «الصعايده مينضحكش عليهم». نوع جديد من القتلة، طيب، لكنه فقد أعصابه فجأة، يسحب بندقيته الآلية من تحت مقعده في الحافلة، ويطلق النار عشوائياً وهو يصرخ: «يا ولاد...».
القاتل، سائق حافلة توصيل الموظفين في شركة «المقاولين العرب»، ورصاصات الانتقام الأولى موجهة الى زملاء له في العمل وفي عملية تنقيب سرية عن الآثار.
الدماء أصابته بجنون إطلاق النار عشوائياً، وتحول الانتقام الى مذبحة ضحيتها ٨ قتلى و١٢ جريحاً، وذعر من أوساط تصدمها جرائم غريبة على المصريين. إنها جرائم على طريقة أفلام «الأكشن» التي لم تعد تحتاج إلى الذهاب الى السينما. تصل الأفلام الى مشاهد من دون حماية، تتسرب الى لاوعي مصاب بالخوف والقلق من المستقبل.
العنف هنا سيد على كل العواطف القديمة للمصريين الأقل عنفاً والأميل الى هوجات شفاهية، يصرخ فيها الشخص مهدداً، لكن هذه هي النهاية.
النهايات الآن عنيفة، ليس فقط في مذابح يرتكبها أشخاص طيبون، لكنه مزاج عمومي، يتفنن في العنف على شكل انفجارات خارج السيطرة.
قبل أسابيع، انتحر شاب في مشنقة على جسر شهير على النيل. مشهد الانتحار مثير بصرياً ونفسياً، وليس مجرد احتجاج على الفشل في الزواج من حبيبته. لكنه أراد حفر مشهد قاس على ذاكرة مجتمع سلبي، صامت عن الحق، أخرس في مواجهة جبروت الأقوياء.
القاتل الطيب بحث عن فرصة ثروة سريعة، وتصور أنه ضحية خداع الزملاء، وانتقم بكل ما في الانتقام من صور دموية، وانفلات نفسية محشورة في علب القطاعات المحرومة من الحياة في مصر.
السائق ليس مسكيناً، هو ضحية مغامرته لعبور الأسلاك الشائكة الى تجمعات الثروة السهلة. لم يشعر القاتل أن سرقة الآثار جريمة، لأنها ليست على قائمة الجرائم المذكورة في النصوص الدينية، الجرائم البدائية: السرقة والزنى والقتل.
سرقة الآثار جريمة من وجهة نظر دولة حديثة، لا مجتمع يراها مجرد دولة حرامية، وعليهم بدلاً من مقاومتها، البحث عن النصيب في السرقة الكبرى.
تحولات ربما يحركها اكتئاب متنوع او متعدد، ليس فقط ذلك الذي أصاب ربع المصريين، أو الذي يظهر على ملامحهم العابسة (عكس طبيعتهم المرحة) والعدوانية (عكس تسامحهم).
المجتمع انسحب إلى قيم الفرص المتاحة، وغادر المساحات العمومية الى مخابئ الفرص الصغيرة، و«أنا ومن بعدي الطوفان».
تفسد هذه النفسيات المكسورة كل ما هو عام، وتبدو معها المساحات المشتركة ساحة جريمة متوقعة. وهكذا فإن المجتمع سيتحول الى سيرك غير مرح للمجرمين.