Strong>ثائر السهلي *ما يُحزن في واقع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أنه متطرف في قسوته، بارد في متناقضات الخطاب الطائفي، كبرودة جلاد مزمز من كأسه وتناول ملعقة «تبولة» قبل إعدام أحدهم. وما يُحزن أكثر أن زوجته، لا شك، تقص على أبنائها «بطولات» أبيهم في حفظ الدار من «أطماع الآخرين». والمفجع أنهم يصدّقون، فترافقهم الأكاذيب حتى تخمة «النضج». هنا تكمن مأساة البؤس في مخيمات تتقاذفها لغة «الآخر» تارة، في استنباط لتاريخ من الوصف المقيت عن «الغرباء».
يستخدم غبطة البطريرك نصر الله صفير صفة «الآخرين» حين يتحدّث عن اللاجئين الفلسطينيين. يضيف: «لبنان بلد صغير، يضيق بأبنائه فما بالك بالآخرين؟». كلام يستحق التمعن، وكذا قراءة النص في استعارة لغة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. «الغرباء» يُشار إليهم مواربة بـ«الآخرين»، لم تتغير في اللوحة الداكنة ألوانها. كأننا أمام رجل لم يتجول في العالم ويرَ كيف تجري مسألة تنظيم حياة «الغرباء» في غربة أوروبية وأميركية. للفلسطينيين أو اللبنانيين وغيرهم من البشر.
ليس سراً أنه من سلالة «الآخرين» ينحدر عيسى الناصري، نبي للمحبة والخلاص. لكن ليس على طريقة البطريرك المنحصرة في استحضار سلم الصعود نحو الصليب، لا يبتسم في وجه منفي، ويمد سبابته نحو جهات الأرض باستثناء جنوب يؤدي إلى بلاد تتكرر فيها لغة توراتية عن الآخرين. وبلغة الشاعر محمود درويش: «أما الجنوب، فكان قصياً، عصياً... لأن الجنوب بلادي!».
صفير لا يخرج عن النص الممجوج للخطاب السياسي السائد في الزمن المكرر لذاته؛ فهو يعطينا الوصفة الجاهزة بتفضيله عودة الغرباء إلى فلسطين، وإذا كانت مستحيلة، فلا مانع لديه من توطينهم في أي بلد، خارج لبنان الصغير. من أين الاستحالة؟ لا أجوبة. وأما التوطين فهذه قصة ظريفة. يكررها الغرباء ليل نهار في توكيد رفضها، وكأن لا أحد يُصدق رغبة وعملاً ممتداً منذ عقود ستة في السير نحو بلادهم، حيث تجري عملية سلب ما بقي من حياة وأرزاق.
في المخيمات المتداعية والمتزاحمة على موت بطيء ينتشرون، محاصرون، مراقبون وممنوعون من كل حق، إلا الصعود على مقصلة التجاذب المذهبي والطائفي، وسواحله ومثلثه. كزائدة دودية لـ«شعوب» المنطقة المتطلعة للسلام ولموسم سياحي يعد بملايين النفط وزوار يخلعون عنهم وقارهم حين يطأون «أرض لبنان الصغير الجميل»!
للغرباء أسماء، تاريخ وحكايات يُجردون منها في مشروع شيطنة وجودهم الكلي. يصير لبنان عنصرياً، وهو تُضاف إليه لازمة طائفية بغيضة تتحكم في حاضر أبنائه ومستقبلهم ليُحدد لهم من يجاورون ومن يصادقون ومن يُحبون ومن يرونه «عدواً».
مصابة مدنهم بأعراض ما بعد «الحداثة» التي تفرض تهميش الضواحي، فما بالك بمخيمات قاد حظ أبنائها العاثر إياهم إلى أن يكونوا مثل بقية البشر. شباب طامح، متعلم يعيش حلم البقية، فبات ممنوعاً عليه حتى التفكير في مخارج أخرى غير تلك التي تزيد المشهد قتامة. تطلع آخر، ذاتي بفعل الدفع باتجاهه. عنصرية ترتدي قناعاً إنسانياً. مقارنة لأن يطلب معاملته كبقية الغرباء المستوردين في زمن العولمة من إثيوبيا والفيليبين وغيرهما من البلدان. نشعر بنشوة أن صرنا في لبنان مثل البقية. صار لنا حديث عن نفط أيضاً.
عجبت ممن لم يجد قوت بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟ أما الفلسطينيون فقد ثلمت الأيام سيوفهم، ولم يكفّوا عن «قرع جدران الخزان» كما أوصاهم كنفاني لمواجهة زمن آخر من أزمنة أبو الخيزران. يخرجون على الناس شاهرين أقلامهم وكمنجاتهم. يستلون العدسات ويصوّبونها باتجاه منصة «الجلاد» العالية المحاطة بجموع جماهير الفرجة.
من هناك، من الجنوب حيث بلادهم، تأتي طائرات تستطلع المنصّة. تشارك في مسرحية فاشلة. تنطلق قنابل ذكية قاصفة المشهد التحتي إن انتابه خلل، كخجل الجلاد في الإمعان باستخفاف العقل.
أيها السادة، إننا أمام مشهد يجترّ نفسه: غرباء يجمعهم بغرباء الوجع ذاته، فما العلاقة بين قانا ودير ياسين؟ وما العلاقة بين الناصرة وبيت لحم وبيروت؟
لا شيء إلا «طوبى للغرباء»!
* كاتب فلسطيني