حنظلة يبحث عن أغنية
توجه حنظلة إلى «أبو مايكل المسيحي». سلّم ودخل إلى محل بيع المشروبات الكحولية. عرف أبو مايكل طلب حنظلة اليومي: «ربعية عرق الصبر» وعلبة سجائر من ماركة «ويتينغ» وكيس ثلج صغير وبعض المكسرات الرخيصة. غادر حنظلة وهو في حيرته اليومية: أين سيشرب اليوم؟
كل المخيم بأزقته لا يكفي، فالكل يعرفه وهو يعرف الكل. قرر الذهاب إلى زاوية نائية من المخيم حيث لا يسكن سوى البوم والغربان في تلك الخرائب التي بنت «الوكالة» جزءاً منها. وفي الطريق مرّ بالأزقة التاريخية التي تحتضن البيوت. وهو يسير، سمع أم نصار العجوز التسعينية تترنم بأغنية جميلة اللحن: «يا عين كوني صبارة ع اللي أخذوه البحارة/حطوه بجوا المركب مثل الشبك والصنارة». وقف حنظلة قرب الشباك المغطى بالشبك السلكي لمنع دخول البعوض الذي يمر حتى من الزجاج بحسب خبرته. الحجة أم نصار بدأت تترنم أكثر بلحن حزين مسترسل: «يا محلا فتيل الهوى/ والنار شعلاني/ لون السفر لوني/ انت السفينة والبحر دمعي/ لون الحزن لوني».
وقع الأغنية على مسمع حنظلة كان صادماً أكثر من طعم العرق لأول وهلة؛ فعرق الصبر من أمر المشروبات في التاريخ، ترافقها لفافات التبغ «ويتينغ» التي تربي بلغماً يعجز السعال عن تخفيف وطأته في الصدر. طرق الباب ليسمع صوتاً أتاه من داخل البيت المتهالك: مين! أجاب: «حنظلة ابن أبو صابر ذايق المر». الصوت ذاته: ادخل. حنظلة بعدما سلم ودخل: من كان يغني؟
أجاب نصار الجالس بقرب أمه يرتدي الفانيلة الداخلية ويضع في فمه لفافة تبغ من نوع «بيشنت»: «الحجة».
حنظلة: شو هاي الأغنية؟
نصار: والله ما بعرف. الحجة صار لها زمان بتغني فيها.
حنظل: طيب، ما سألتها؟
نصار: حتى لو سألتها، هي مش معك.
حنظلة: وين يعني؟ ما هياها!
نصار: مسافرة في الملكوت.
حنظلة وقد فهم أنها مصابة بمرض «الخرف»: طيب مين حافظ هالأغنية؟ مين بعرفها؟
نصار: والله يا أبو الصابر ما حدا بعرفها غير الحجة.
وبدأ حنظلة رحلة البحث المرير عن هذه الأغنية وأرسل إلى الجميع: «يا محلا فتيل الهوى والنار شعلاني/ لون السفر لوني/ انت السفينة والبحر دمعي/ لون الحزن لوني/ يا عين كوني صبارة ع اللي أخذوه البحارة/ حطوه بجوا المركب مثل الشبك والصنارة/، «من يعرف عنها شيئاً مشان الله دلوني. من أي مناطق من وطني؟ من الساحل ما هي؟».
عمان ـ معاذ عابد

■ ■ ■

رد من صبابة

حنظلة يا حنظلة، مع كل مشروبات الصبر والترنح خلف الحيطان، يبقى هناك أمل في عودتنا. فنحن في اغترابنا القسري لم ننسَ من نكون ولن ننسى هذا أبداً، لأن عجوزاً ما زالت تغني ما حفظته في الوطن وأنت سمعته وسألت عنه، وأنأ سأجيبك عنه. «يا عين كوني صباره ع اللي أخذوه البحارة حطوه بوسط المركب مثل البحر والصنارة». هذه الأهزوجة الضاربة في القدم إلى ما قبل الاستعمار الإنكليزي والفرنسي لبلاد الشام
كانت تُغنى في ذكرى الشباب الفلسطيني الذين كانت القوات التركية العثمانية تأخذهم إلى معاركها خلف البحر في ما كان يسمى «السفر برلك». فكان الشباب يُحملون من ميناء حيفا انطلاقاً إلى «إسطنبول» للزج بهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وقد عانى الكثير من سكان الساحل الشرقي للبحر المتوسط من فلسطين ولبنان وجنوب سوريا من هذا الترحيل الذي كان يزرع مرارةً في قلوب المرميّين في السفن مثل الشباك والصنارة.
لكن المقطع التالي في هذه الأهزوجة «يا محلا فتيل الهوى والنار شعلاني/ لون الحزن لوني/
أنتي السفينة ودمعي البحر/ لون السفر لوني» هو جوهر الحزن في هذه الأغاني والأهازيج.
عندما كان من يحالفه الحظ يفر من الخدمة الإجبارية العسكرية ويعود إلى فلسطين، كان يحدثهم عن الأهوال التي عانوها. فبعد اقتيادهم إلى ميناء حيفا، كانوا يلقون بهم في بواطن السفن، وبعد أيام طويلة في بحر مظلم، كان صوت شاب يخرج من بين أكوام المخطوفين، المكوّمين في ظلمة سفينة تشق ظلمة البحر نحو المجهول، يتهدج مختنقاً بعبرات البكاء لتذكر محبوبته التي قد لا يراها أبداً بعد اليوم، بعد أن كان قد نوى أن يطلبها من أهلها ما إن يباع الموسم على البيدر، إثر مواسم الحصاد، تتراءى له حبيبته وهو في غياهب الظلام فيغني... يا سابحة ببحر الهوى والنار شعلاني... لون الحزن لوني... فتبدأ عبرات من يسمعه بالنزول حارةً على الخدود الباردة وتزداد وتيرة الحزن في المقطع الثاني «أنتي السفينة ودمعي البحر... لون السفر لوني». حنظلة، ذاكرة الشعب لا تموت... ولن تموت وسنتعرف إلى المزيد من تراثنا الذي لا يموت، بل يتجدد في انتظار ساعة بعث جديدة. في الوطن.
الأردن ـ ربى حسن