حقّق مبتغاه بلا أثمان: مفاوضات مباشرة بلا وقف للاستيطان
علي حيدر
إحدى أهم النتائج التي توصّل إليها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خلال لقائه الأخير بالرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن الإدارة الأميركية أسقطت الارتباط الشرطي، الذي فرضته هي، بين مفاوضات التسوية المأمولة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وتجميد الاستيطان الجزئي في الضفة الغربية. حسبما بات واضحاً، تضغط واشنطن على رئيس السلطة، محمود عباس، للانتقال من «محادثات التقارب»، التي لم تقرّب شيئاً طوال الفترة الماضية، إلى المفاوضات المباشرة، حتى قبل انتهاء موعد تجميد الاستيطان في أيلول المقبل. وبحسب ما يرشح عن الإعلام الإسرائيلي، تواضعت المطالب الأميركية إلى الاكتفاء بـ«تعهد سري» بأن لا تقدم تل أبيب على اتخاذ خطوات استيطانية صاخبة في القدس الشرقية، وتحديداً في المناطق الآهلة بالسكان الفلسطينيين.
وللتخفيف من حدة التراجع الأميركي أمام إصرار نتنياهو، ومن ورائه اليمين الإسرائيلي، وفي محاولة لتكوين طابع تبادلي للتنازلات الأميركية، استُبدل تجميد الاستيطان بخطوات «بناء الثقة»، على شاكلة تقليص النشاط العسكري الإسرائيلي في عدد من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، إضافةً إلى إزالة عدد من الحواجز العسكرية، ونقل المسؤولية الأمنية عن مناطق إضافية إلى أجهزة السلطة الفلسطينية.
ومن ناحية عملية، تبنّت إدارة الرئيس الأميركي الموقف الإسرائيلي، ومن شأن ذلك أن يدفع السلطة الفلسطينية إلى واقع يرجّح أن يضطر معه محمود عباس، مرةً جديدة، إلى التراجع عن شروطه، والانتقال إلى مرحلة المفاوضات المباشرة، تماماً كما تراجع قبل أشهر، عندما وافق على الدخول في مفاوضات غير مباشرة، في ظل عدم التزام إسرائيل بتجميد تام للاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية.
ورضوخ محمود عباس أمام الضغط الأميركي، وأن يتجاوز شروطه، لا يُعدّان مسألة تحليلية أو تقديرية، بل حقيقة واقعة لا يمكن أن يحيد عنها، إذ لا يمكن عباس أن يرفض ما تسمح به واشنطن وتل أبيب في ما يتعلق بمسارات التسوية، مهما صغرت وصغر مآلها، وينبغي التأكيد أنّ اختلاق «أفق سياسي» للتسوية على المسار الفلسطيني، يمثّل مطلباً أميركياً وإسرائيلياً وفلسطينياً (السلطة)، إضافةً إلى كونه مطلباً لعرب الاعتدال، فالإقرار بانسداد آفاق التسوية ينطوي على مخاطر قد تودي بالسلطة الفلسطينية نفسها، وتُفقدها مبرر وجودها، كما من شأن إنهاء التسوية أن تجذّر خيار المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، كخيار وحيد باق، لانتزاع حقوقه الوطنية والتاريخية.
أما بالنسبة إلى إدارة أوباما، فإنّ استئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني، مطلب دائم وذو أبعاد استراتيجية، إذ تربط واشنطن بين التسوية العربية الإسرائيلية، والقدرة على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وأيضاً ما تسمّيه الإرهاب الإسلامي. من هنا، كان خيار التنازل أمام نتنياهو طبيعياً، وكان طبيعياً ومعتاداً أيضاً، التوجه للضغط على السلطة الفلسطينية، لتقديم مزيد من التنازلات التي وصلت إلى حدود غير مسبوقة. إذ لا يمكن واشنطن أن تسمح بتعثر العملية السياسية، وإعلان انسداد آفاقها، مهما كانت الآمال متواضعة حيالها.
ضمن هذا الإطار، يمكن القول إنّ نتنياهو حقق ما يريده لجهة التسوية مع الفلسطينيين، أي الانتقال إلى المفاوضات المباشرة من دون دفع أثمان، على مستوى الاستيطان، التي من شأنها أن تؤثر سلباً في ائتلافه الحكومي وداخل حزبه، الليكود، كما أنها تجنّبه إمكان اتجاه الأمور نحو المجازفة بالائتلاف مع حزب «كديما» برئاسة تسيبي ليفني، ضمن حكومة وحدة، قد تصل في نهاية المطاف إلى انتخابات مبكرة للكنيست.
إلى جانب ذلك، من الضروري استحضار حقيقة أن زيارة نتنياهو الأخيرة، كانت بديلاً عن زيارة قطعها في حزيران الماضي في أعقاب المجزرة على متن السفينة التركية، مرمرة، التي كانت بدعوة من أوباما، بناءً على توصية من مستشاريه، الذين أكدوا له أن الانطباع المتبلور في الرأي العام الأميركي، عامةً، ولدى اللوبي الإسرائيلي خاصةً، عن توتر العلاقات بينه وبين نتنياهو، يترك آثاره السلبية على الحزب الديموقراطي، وستكون له نتائج سلبية في الانتخابات النصفية للكونغرس، في تشرين الثاني المقبل.
ولعل الطابع الاحتفائي الذي حرص على إظهاره أوباما خلال استقباله نتنياهو في البيت الأبيض، يفسّر هذه الخلفية ويعكسها، بل إن جزء أساسياً من خلفية المقابلة الأخيرة، التي أجراها أوباما مع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، تشير وتؤكد أن ما يهدف إليه أوباما في هذه الفترة، هو استرضاء إسرائيل انطلاقاً من عوامل داخلية أميركية.
تبقى الإشارة إلى وجوب عدم القفز فوق حقيقة غير قابلة للنقض، ضمن الموازين والمصالح والقوى داخل الولايات المتحدة، بأنّ الخط الأميركي الثابت في التعامل مع الدولة العبرية، ينطلق من احتضانها ودعمها والمحافظة على تفوّقها النوعي حيال أعدائها، وبالتالي تبقى كل حالات التباين على مستوى الرؤية والموقف مسقوفة دون هذا المستوى، فواشنطن ترى، رغم كل ما يقال، أن إسرائيل جزء من منظومة الأمن القومي الأميركية، ويجوز لها ما لا يجوز لغيرها من الحلفاء، ولا مجال للمقارنة والقياس بين الحليف الإسرائيلي، والحليف العربي، هذا إن صح القول بوجود حليف عربي.
لن يتغير هذا الواقع، إلا عندما تبدأ مصالح الأميركي تتضرر مباشرةً من الدعم المطلق لإسرائيل.