strong>وائل عبد الفتاحنظام حسني مبارك غالباً سيقول وداعاً، مهما كانت نتيجة انتخابات الرئاسة المقبلة. وفي أيام ما قبل الوداع تحدث ألعاب خطيرة، تسهم في هندسة السلطة ما بعد مبارك؟ من سيدفع فاتورة أيام ما قبل الوداع؟ هذا هو السؤال

مصّاصو الدماء في صفقات التغيير



من سينتصر؟
الدولة في لحظة انتقال خارج السيطرة. عقل الدولة مشغول بتعقيدات انتزاع فرصة «البقاء إلى أقصى وقت ممكن». شحنات سياسيّة تقاوم شيخوخة النظام، ليقاوم معارضة رغم ضعفها، إلّا أنها تبحث عن قويّ يشتري الضعف ويصنع منه «شرعية» قد تهزّ وضع النظام عن طريق تحالفات انتخابية، أو قرار جماعي بمقاطعة الانتخابات.
صفقة الشراء يفسدها النظام المدرّب، والعارف بكل خبايا المعارضة، ومن ربّى القرد يعرف لعبه، ويعرف أن يضع حدوداً للألعاب. التحالفات تفسد سريعاً، ومسابقة البحث عن «سنيد» في انتخابات الرئاسة تحيي المقارّ المهجورة للأحزاب بالصراع على مناصب أو قرارات الترشيح. وهنا انتقلت مصطلحات الاحتراف في الأندية الرياضية إلى عالم الأحزاب السياسية، ولم يعد غريباً أن تسمع عبارة «جالي عرض من حزب كذا»، يقولها رئيس حزب أو أحد قادته، أو أن يفاوض حزب شرعي سياسيّاً في الظل لكي ينضمّ إلى فريقه السياسي.
الخطورة في الشارع، وإمكان صناعة المفاجآت على غير هوى النظام السياسي. وهذه مساحة مميزة للعبة الإخوان المسلمين المفضّلة. الجماعة قرّرت ركوب الجمعية الوطنية للتغيير، وبعد تعاملها الحذر مع محمد البرادعي، تخلّت عن كوابحها، وانطلقت خلف مطالبه السبعة، تحشد توقيعات وتقود تظاهرات. لكن هل تكمل إلى النهاية، أم سيتغيّر الموقف بهاتف يجدّد التفاوض، ويحيي الصفقات المركونة في أدراج أمن الدولة؟
هذا ما يقوله المتمردون على قيادة الإخوان، في إشارة إلى تاريخ من صفقات النظام والإخوان، توقف الجماعة قبل خطوط حمر يعرفها الطرفان، ويناوشان حولها.
يتعامل النظام بهدوء أكثر هذه الأيام، رغم متاعب الشيخوخة، بينما الملايين المنتظرة النهاية البيولوجية حائرة: ماذا بعد مبارك؟
يستسلم البعض لسيناريو الأقدار: الابن سيصعد بعد أن يضبط أموره، وسيشارك رجال الأعمال في الحكم للمرة الأولى. شريك لا تابع هذه المرة.
بين هؤلاء سذّج ومراهقون يتخيّلون عودة سيناريو ليلة 23 تموز 1952، حين تخرج مجموعات سرية لتحيط بالقصر الجمهوري، وتعلّق المسؤولين الحاليين على مشانق «الثورة»، وتعيد حصاد النهب الأخير الى مستحقّيه.
«خيالات» الثورة ترد على ملل الواقع ومسارات القدر بخيال يتصور أن الانتقال السياسي محكوم بإعادة التاريخ لنفسه. في هذه المرآة: لن يتغير شيء إلّا بالقوة، وحدها تستطيع كسر مسار القدر، وتخرج جمال مبارك من قصر أبيه، بصفقة يحمي فيها نفسه وعائلته من انتقام الغاضبين.
«أمير» ابن «ملك» جمهوري، هذه صورة جمال مبارك عند ملايين لم يعد يهمّهم سوى إعادة إنتاج «الديكتاتور العادل»، لا يهمّهم تغيير الحاكم ولا العلاقة به ولا تداول السلطة، هؤلاء يبحثون عن «وليّ نعم» أكثر عدلاً وكرماً وعطاءً، لا تزعجهم نظرة أنّ «البلد بلدهم»، وأنه ملكهم الذي لن يتنازلوا عنه بسهولة.
من المفروض أن يقول نظام مبارك «وداعاً»، على حد تعبير مجلة «الإيكونوميست» في مقال عن التغيير في العالم العربي. المقال اهتمّ بالتغيير في مصر والسعودية باعتبارهما: أهم دولتين بالنسبة إلى الغرب في المنطقة.
أهمية السعودية في البترول ومصر في الأمن. هما حليفان للغرب، ومن المهم (حسب المجلة) أن يشجّع الغرب النظامين السياسيّين في القاهرة والرياض على التطور والتحرير الاقتصادي والسياسي لكي يتحوّلا إلى أماكن للأمل لا للخوف.
هذه وجهة نظر تتعامل بحذر قليل مع انتظار التغيير عبر النهايات البيولوجية، لا السياسية. لماذا ينتظر بلد كامل القدر لكي يُحدث التغيير؟ سؤال لم يشغل المجلة، لكنه يشغل مصر، التي تبدو في أزمة جديدة عليها إلى حد كبير.
مبارك ورث من الأنظمة السابقة الاستبداد فقط، لم يرث كاريزما عبد الناصر أو السادات، ولا وعي كلّ منهما على طريقته للدور الحيوي لمصر في الإقليم والعالم. لكنه فعل ما لم يفعله أسلافه جميعاً، أو لم تتح لهم فرصة القيام به.
مبارك وجد الفرصة تحت مقعده، أرض محتلة تعود، ورغبات دولية في تحويل دور مصر من قائدة الثورة والتمرد على النظام العالمي إلى «مسمار» في ماكينة الدفاع عن النظام العالمي ذاته. وهو تحوّل مدفوع الثمن، تتحول مصر فيه إلى سوق أو محطة من محطات السوق العالمي.
هذه التحولات أدارها مبارك بعقلية الموظف الذي لا يعترض على الأوامر، لكنه ينفّذها بمزاجه أو حسب طريقة يضمن بها مصلحته.
تفكّكت قبضة الدولة على الثروة بعد ضغوط المؤسسات المالية الدولية، لكن تحولت إلى مجموعات من أهل الثقة اختارتها الدولة ليؤدّي أفرادها دور «رجال الأعمال». وزعت عليهم حصص الاستفادة من الطفرات المالية، واحتفظت بنسبتها ونصيبها وملكيتها للثروة معنوياً.
لم تتكوّن شرائح رأسمالية، ولكن مجموعات من المستفيدين من عطايا وليّ النعم (الدولة)، والثروات كلها تقريباً تحت وصاية الدولة التي تعرف متى تسمح ومتى تمنع؟
هكذا تطوّرت أشكال كثيرة من الحياة في مصر، وتغيرت أوضاع الخدمات، واتسعت العين إلى درجة مدهشة، لكن لا تزال الأطر التي تتحكّم فيها الدولة قديمة، استبداد ورعاية غير مباشرة للفساد، وعدم انتباه إلى أنّ غياب العدالة سيصنع أزمة كبيرة في مجتمع يرى الناس فيه ثمار نمو اقتصادي تذهب إلى أرصدة مجموعات قليلة من المحظوظين والشطّار.
طرق الصعود المالي والاجتماعي مغلقة، وفرص التعبير السياسي محاصرة بكتائب الأمن المركزي وترسانات القوانين المقيّدة للحريات والمانعة لتداول السلطة.
هنا يبدو التطور الذي حدث في عصر مبارك، خرافة لا يشعر بها إلّا مصاصو الدماء؟ هل سينتصر مصّاصو الدماء في النهاية؟ أم للتغيير قانون أقوى ينتقل فيه المجتمع إلى فاعلية أكبر من مجرد لعن القدر أو انتظار قرار ملاك الموت، أو الصراخ خوفاً أو ذعراً من مصّاصي الدماء؟

صناعة نسيج النظام



البابا سعيد. بطريرك الكرّازة المرقسية انتصر في معركة الزواج الثاني. تكرّست سلطته، وأصبحت كلمته من كلمة الله، لا تُردّ ولا تُكسر، والدولة لن تقيم قانوناً ضد الدين
الدولة ليست مهمّة، ولا قانونها، المهم سلطة البابا الذي أعلن أنّ الزواج المدني زنى، وأنّ ما يجمعه الله لا يفرّقه بشر. أما ما يجمعه الشهر العقاري (مكتب التوثيق) فيستطيع أن يفرّقه موظف. هكذا سلطة البابا أصبحت مطلقة على «شعب» الكنيسة، الخارج عنها مشاغب بلا حماية حتى من الدولة المدنية.
النظام مشغول بنسيجه الخاص، يترك ما للبابا للبابا، ليصبح البابا صديقاً لا عدوّاً، وكتلة الأصوات القبطية في رصيد الحزب المدافع عن الكنيسة والبابا.
بالمنطق نفسه يخطف «المجلس الخاص» في «مجلس الدولة» قراراً يؤجّل فيه منح المرأة حق التعيين في القضاء إلى أجل غير مسمّى. وبدلاً من أن يتنحّى القضاة الذين أعلنوا رأيهم صراحةً في القضية، جلسوا على المنصة وأصدورا قرار تعطيل الحق بكل ارتياح، وربما بشعور إنجاز مهمة إنقاذ المجتمع، أو انحياز لمدنيته. فالمرأة، كما قال أحد أعضاء المجلس الخاص المستشار عادل فرغلي، خضعت لتيارات سلفية ووهابية وإيرانية متطرفة، ألبستها النقاب ومن قبله الحجاب، وتراجعت معها الثقافة المجتمعية للمرأة.
الدولة ليس لها صوت، وتخضع للثقافة السائدة: انتزع مساحتك بغضّ النظر عن سياق الحقوق العامة.
المؤسسات الكبرى تدار باتفاق مصالح، أو بأعراف يحدّدها صاحب القرار، ما دمت لن تصنع مشاكل، أو ما دام المتصارع معك أضعف من أن يثير مشاكل، فلن يوقفك أحد، إلا وقت الضرورة أو الاستخدام المباشر.
النائب العام فتح هذا الأسبوع التحقيق مع رئيس الحكومة الأسبق، الدكتور عاطف عبيد، بخصوص بلاغ يتهمه بإهدار المال العام في صفقات خصخصة القطاع العام. تهمة كبرى لاحقت «عرّاب الخصخصة». التحقيق يأتي في وقت تحتاج فيه الدولة إلى اسم جديد في «مغسلة الوحوش»، حيث ستجري التحقيقات والمحاكمة ولن تصل إلى شيء محدّد، كما يحدث مع وزير الإسكان الأسبق، محمد إبراهيم سليمان، الذي دخلت التحقيقات معه شهرها السابع، ولم يصل المحقّقون إلى شيء.
على الهامش تظهر مناورات للانقضاض على محترفي بيع العقارات والأراضي. هم الأشطر والأكثر ربحاً وقدرة على استغلال ثغر القانون، لكن حين يظهر الوجه الضعيف للشاطر، تظهر آلاف الأسلحة تدافع عن بيع مصر، ولم يظهر عقد بيع قطع أراض ضخمة لهشام طلعت مصطفى إلا بعد سجنه في قضية مقتل سوزان تميم. ولم يتحرك أحد ضد الذين أقاموا منازلهم على أراض زراعية إلا بعد صراعات بين مافيا العقارات والأراضي والوزير، الذي دفع فيها ثمناً باهظاً حين أصرّ الرئيس حسني مبارك على وقف عملية البيع التي نفّذها الوزير لنفسه.

مرحلة الضبابهذا وقتهم إذاً. الأخبار المهمة الآن تقوم على تصريحات من مصدر رفض ذكر اسمه أو «مسؤول» لكنه لا يعلن اسمه. مصدر موجود وخفيّ في الوقت نفسه. عالم ببواطن الأمور ويقدّم معلومات عن قضايا حساسة، لكنه «لهو خفيّ». لا يراه أو يعرفه غير من كتب عنه.
لماذا يخفي اسمه؟ ولماذا لا يعرف القارئ موقعه بالضبط؟ غالباً هي طبيعة مرحلة الضباب التي تعيشها مصر، لم يعد النظام وحده هو المالك الوحيد للأخبار ونشرها. تعدّدت منابر النشر، وكان لا بد أن تتغيّر طرق اللعب، ولهذا ظهر المصدر الذي يتحدث إلى ٣ صحف مرة واحدة من دون أن يذكر اسمه ومن دون اختلاف في المعلومات، لكنها رسالة واحدة يصوغها المصدر حسب الصحيفة.
وما حدث مع الشائعات الأخيرة بشأن صحة الرئيس مبارك دليل على تغيير طرق اللعب، مع تحقيق الهدف نفسه.
مؤسسات الرئاسة لم تصدر بياناً رسمياً، إلّا أنّ مصدراً مسؤولاً فيها، غير محدّد الاسم والموقع، نفى الشائعات، لكنه لم يقدّم معلومات محددة.
وهذه طريقة تجعل المعلومة في منطقة وسط بين الرسمية وغير الرسمية. ظهور المصدر الخفي يعني أن مؤسسات النظام لا تعترف بحق المجتمع في معرفة كل كبيرة وصغيرة عن رئيس الجمهورية.
لا تريد مؤسسات النظام التخلي عن كونها موروثاً من دولة الأسرار والكهنة. تريد فقط أن تتعامل مع مستجدات اللحظة الراهنة. استخدام الصحف المستقلة أسلوباً جديداً لدى المصادر غير المعلنة، يؤكّد اهتزاز صدقيّة صحف النظام، لكنه أيضاً ليس اعترافاً بأهمية الصحافة وحقّها في المعرفة، بل رغبة في استغلالها كمنصة رسائل إلى المجتمع.
والرسالة القوية في موضوع صحة الرئيس، هي أنّ الحقيقة لديهم هم في النهاية، ويجب الكفّ عن محاولة الاجتهاد، لأنّ الخبر الأكيد لدى المصادر السرية، والمؤسسات التي تذكّر الجميع بوجودها المقدّس. هذه المؤسسات تركت الشائعات تكبر وتنتفخ، وأوصلتها إلى درجة الذروة ليلة ظهور الرئيس مبارك في حفل تخرج الدفعة الـ٧٧ من الكلية الجوية. ليكون للظهور طنّة ورنّة عاليتين، وللحقيقة مالك واحد، هي المؤسسات التي ينتمي إليها المصدر الخفي، والمعلن في الوقت نفسه.
إنه الضباب الذي يصعب من خلفه رؤية مستقبل الصراع على الحكم، وتتخلّى فيه المؤسسات القديمة عن بعض من تقاليدها (في الصمت) لكي تظلّ موجودة ومسيطرة.