تل أبيب تركّز على سحب «الفقرة» السوريّة من «سلسلة الممانعة»علي حيدر
تعدّ التسوية مع سوريا، في الأساس، مطلباً إسرائيلياً يحظى بإجماع شبه كامل، لكن الخلاف كان ولا يزال مرتبطاً بالثمن الواجب تقديمه إلى السوريين، وحقيقة الموقف السوري في «توفير البضاعة»، التي تأملها إسرائيل. وكانت أسهم المفاوضات وإمكانات التسوية قد وصلت إلى حدود غير مسبوقة عام 2000، بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ورئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك إيهود باراك، لكن العرض الإسرائيلي في حينه لم يصل إلى الحد الأدنى المطلوب سورياً، فسقطت المحاولة.
منذ ذلك الحين، تغيرت الظروف، وتغيرت المعطيات لدى الجانبين، وتحولت التسوية على المسار السوري، في هذه المرحلة، إلى ما يصفه بعض المنظّرين الإسرائيليين بالمصلحة الاستراتيجية العليا، إذ يجري ربط التسوية وإمكاناتها مع سوريا بمتغيرات البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية وتحولاتها الأخيرة، وتحديداً في ما يتعلق بالتهديد الإيراني، وتعذّر مواجهته، وتعاظم القدرة العسكرية غير المسبوقة لدى حزب الله، التي تمنع تل أبيب من فرض إرادتها السياسية في لبنان، إضافةً إلى التهديد الفلسطيني من قطاع غزة. هذه البيئة، الاستراتيجية، ازدادات تعقيداً بعدما فشلت إسرائيل في اجتثاث المقاومة واحتواء سوريا بالتبعية عام 2006، الأمر الذي حوّل مسألة تحييد سوريا (عبر التسوية معها) إلى أولوية إسرائيلية قصوى.
الخلاف بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ضمن هذا الإطار، لا يرتبط في الواقع بمسألة الثمن، أي لا يتعلق بإمكان أو عدم إمكان التخلي عن هضبة الجولان، أو تقديم رزمة من المحفّزات الاقتصادية ترضي دمشق، أو ما يرتبط بإدخال سوريا في «محور الأخيار»، بل يرتبط بتقدير إسرائيلي للموقف السوري نفسه، حيال إمكان فك الارتباط عن إيران، ومحور الممانعة عموماً، باعتباره خياراً بديلاً يمكن الرهان عليه، طالما أنّ الخيار العسكري متعذر.
تتحدث شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، عن إمكان تحقيق التسوية مع سوريا، إذا دفعت إسرائيل الأثمان المطلوبة، وفي تصريحات سابقة وحالية لرئيس أمان، عاموس يدلين، فإن على إسرائيل أن «تطرق باب التفاوض» مع سوريا، طالما أن النتيجة، في حال نجاح التسوية، تخدم المصلحة الإسرائيلية بامتياز، حتى وإن كان الثمن التنازل عن الجولان وأثمان أخرى. ويرى يدلين أن نزع دمشق من المحور الإيراني، قد يكفل احتواء حزب الله وحركة حماس وقوس التهديد برمته، بينما يرى رئيس الموساد مائير داغان، أنّ أصل حديث سوريا عن المفاوضات، حتى في حال تقديم الأثمان المطلوبة، لا يراد منه سوى كسب مزيد من الوقت للتفلّت من الضغوط الدولية والأميركية، واستغلال الوقت لتعزيز القدرات في وجه إسرائيل. أمّا رئيس الأركان غابي أشكينازي، فيركز على ضرورة تجربة هذا الخيار ومباشرة التفاوض على المسار السوري، «لما ينطوي عليه من نتائج استراتيجية على أمن إسرائيل وموقعها في المنطقة».
سرّ التفاوت في التقديرات، مردّه في الأساس إلى انسداد الخيارات العملية أمام إسرائيل. ففي أعقاب فشل الخيارات العسكرية، بدءاً من الحضور الأميركي المباشر في المنطقة، ومن ثم الخسارة أمام المقاومة عام 2006، لم يبقَ أمام تل أبيب إلا الالتفاف على حزب الله وعلى إيران، من خلال سحب «الفقرة» السورية من «سلسلة الممانعة» التي لم تقوَ عليها بالقوة.
ويزيد من الإرباك الإسرائيلي، إدارة الرئيس الأسد للمعركة، فهو من جهة، يرسل إشارات تسووية باتجاه إسرائيل والولايات المتحدة، ومن جهة أخرى، يوثق علاقاته الاستراتيجية مع إيران وقوى المقاومة، بل يمكن القول إنه تجاوز في هذه المرحلة الخطوط الإسرائيلية الحمراء التي ترى تل أبيب أنها تمسّ بأمنها القومي.
معضلة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تحديداً، أنها من ناحية عملية ناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي، الملقى على عاتقه أن يجد الحلول العسكرية في حال انسداد الآفاق السياسية في مواجهة الأعداء، وطالما أنّ الحل مستعصٍ ومتعذّر ودونه مخاطرة كبيرة جداً، كان لزاماً على الاستخبارات أن تروّج لخيار المفاوضات، و«لزوم التجربة»، مع إدراكها أنّ الأمرين مستعصيان على القيادة الإسرائيلية في هذه الفترة، وبالتالي تحاول استخبارات إسرائيل إبقاء الوضع الراهن، أي إدارة الصراع طالما أنّ الحلول العسكرية والسياسية متعذرة، على حدّ سواء.
رغم ذلك، تصح نظرية الاستخبارات الإسرائيلية في أن نزع سوريا من محور الشر، يحمل فوائد كبيرة جداً لإسرائيل، لكن المشكلة أنّ الاستخبارات نفسها تدرك أنها غير قابلة للتحقّق. فالثمن المطلوب من سوريا، ضمن خيار التسوية، يعني بالنسبة إلى دمشق انتزاع عنصر القدرة منها، و«جلداً للذات» مع كل ما قد يترتب على ذلك من نتائج. وما استمرار الحديث الاستخباري الإسرائيلي عن خلافات في الرأي، في ما يتعلق بنيّات الأسد، إلا إشارة ودليل على أن الآفاق والحلول السياسية والعسكرية، لا تزال مغلقة أمام الدولة العبرية.
وبناءً عليه، من الطبيعي جداً أن يجري التعويض عن حالة الانسداد التي تواجهها الخيارات الاستراتيجية الإسرائيلية، بمخططات من نوع آخر، (القرار الظني في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري) في محاولة لتشويه صورة حزب الله واستنزافه، وحشر سوريا، لعلها تفتح أبواباً مغلقة أمام المخططات الإسرائيلية التي تستهدف لبنان وسوريا والمنطقة.