في شهري تموز وآب تنشط الحركة السياحية في لبنان. وثمة فئة من السياح وجهتهم لن تخطر ببال أحد: المخيمات. هؤلاء السياح ببساطة هم فلسطينيون مغتربون يحنّون إلى ملاعب طفولتهم في بلد لجوئهم الأول
قاسم س. قاسم
في الأزقة الداخلية لمخيم شاتيلا، تقف الطفلة أماني الحاج قاسم ممسكة بيد والدها ممدوح. تراقب الصغيرة أبناء عمومتها يلهون، تنظر إلى والدها كمن تستأذنه للعب معهم. تربيتة صغيرة منه لكتفها، وإيماءة من رأسه بالموافقة حتى تنال الطفلة الضوء الأخضر لتنطلق مسرعة باتجاه أقاربها. يحدثها والدها بلغة غير مألوفة لأبناء المخيم، ترد عليه باللغة الغريبة نفسها، ثم تدير ظهرها وتمشي. يجلس الحاج قاسم في مقهى في الزقاق الذي تلهو فيه ابنته، ينظر إليها حيناً للاطمئنان إليها، وإلى وجوه محدثيه حيناً آخر. الرجل وصل حديثاً من الدنمارك، وهو البلد الذي يضم العدد الأكبر من فلسطينيي مخيمات لبنان. زيارة الحاج قاسم هي الأولى من نوعها بعد انقطاع دام عشر سنوات. الأولى بعد تركه المخيم وتوجهه مهاجراً، حيث يكاد يكون مهجّراً إلى بلد اللجوء الثاني. منذ ذلك الحين، لم يزر الرجل شاتيلا؛ لأن زواجه واستحصاله على الجنسية الدنماركية تطلبا منه البقاء بعيداً عن المخيم كل هذا الوقت. لكنه أخيراً عاد، لكن مغترباً يعود إلى «وطنه». أليس الوطن ملاعب الطفولة وما تشربناه حين كنا صغاراً؟ في المقهى الصغير الذي جلس فيه الحاج قاسم، التقى الرجل بأصدقائه القدامى، واستذكروا «أيام الطفر وكيف كنا نشتغل بالعتالة»، يقول مبتسماً لذكرى تلك الأيام. في الدنمارك، لا شك، الأحوال أفضل حالاً. فمع «تعلمي اللغة الدنماركية، أصبحت أعمل في مطعم صغير، وهناك لا تفرقة بين الناس، ما دمت تحمل جنسية البلد»، كما يقول الحاج قاسم. تقاطعه ابنته أماني، تطلب منه مالاً لتشتري بوظة، تنال الفتاة مبتغاها وترحل. لا يخاف ممدوح من «بوظة المخيم»، فقد أحضر ابنته خصيصاً من الدنمارك «لأنني أردت أن تعتاد بساطة حياتنا في المخيمات، وتشوف أبوها وين كان عايش». يضيف: «ما ينقص الدنمارك الألفة الموجودة عندنا، وأكيد ما في ولاد بيلعبو بالشارع! فهادا أكتر اشي مبسوطة فيه البنت هون» يقول. تسأل أماني عن الفرق بين «هنا» و«هناك»، أي الدنمارك. تردّ الصغيرة بلغة عربية «مكسرة» وبخجل، بعدما يقنعها والدها بالإجابة «هون أحلى. فيني إلعب متل ما بدي». هكذا، تكتظ المخيمات الفلسطينية في الصيف بالمغتربين العائدين من ملاجئهم الأخرى إلى لبنان، للاطمئنان إلى أحوال أهلهم الذين بقوا هنا في مخيماتهم.
يعود المغتربون الفلسطينيون إلى مخيمات ولدوا فيها كمن يعود إلى وطنه
ولعودة هؤلاء، ترتفع الكثافة السكانية في المخيمات المكتظة أصلاً، «تعجق» في الأزقة الداخلية بالسيارات الحديثة المستأجرة. وفي هذين الشهرين أيضاً وأيضاً تكثر رؤية الأجنبيات أكثر من أي وقت مضى، من دون أن يكنّ ممثلات لأي من الجمعيات الدولية التي تنشط داخل المخيم. فهن ببساطة زوجات المغتربين العائدين مع أبنائهن. وللصيف نكهة نشاط في المخيمات التي «ترد إليها الروح» بتنشيط الحركة الاقتصادية. فالمغتربون يحق لهم العمل في الدول التي قصدوها و«عرق جبينهم» يصرف بسخاء في لبنان من خلال سياحتهم وإقامتهم ورحلاتهم. فهؤلاء المغتربون يتصرفون كأنهم سياح في البلد الذي تربوا فيه، ويقصدون الأماكن التي لطالما سمعوا عنها ولم يكونوا يستطيعون زيارتها أيام أحوالهم القديمة. هكذا، لا يبخلون على أنفسهم أو على أهلهم بالتبضع من المحالّ التجارية الفخمة أو تلك التي اعتادوا أن يشتروا منها في مرحلة ما قبل هجرتهم واغترابهم. في هذا، يقول محمد عيتاني، وهو صاحب محل بيع ألبسة في منطقة الطريق الجديدة القريبة من المخيمات، إنه في هذه الفترة من السنة «يأتي المغتربون الفلسطينيون بأعداد كبيرة للشراء، ومعظم الثياب التي يشترونها تكون لعائلاتهم ولأهلهم الذين ما زالوا يقطنون في المخيمات»، كما يقول.
على باب مخيم برج البراجنة، تقف ثلاث سيارات تحمل لوحات وأرقاماً صفراء. السيارات ليست تابعة لهيئة قنصلية في لبنان، بل هي نمر سيارات أوروبية. أصحابها جاؤوا من بلدان إقامتهم الأوروبية بسياراتهم براً، توخياً على ما يبدو للتوفير ولإبقاء السيارة ربما هنا. هكذا، يقف أكرم الشريف بقرب سيارته التي أتى على متنها من ألمانيا، منطلقاً من برلين قبل أسبوع من وصوله إلى المخيم. الشريف ترك لبنان «أيام الحرب الأهلية»؛ إذ فضّل أهله أن «أترك البلد كي لا أقاتل مع أحد الفصائل الفلسطينية وأصبح مثل أخي الأكبر» يقصد متعيشاً من تلك الوظيفة. هناك في ألمانيا «أكملت تعلمي ودرست هندسة الاتصالات، واليوم أنا أعمل في شركة اتصالات ألمانيا. لكن كما جرت العادة، أزور لبنان في العطل الصيفية، برغم أن الطقس جميل في ألمانيا في هذه الفترة»، كما يقول. لا ينقطع تواصل الشريف مع أهله في المخيم ومع أصدقائه القدامى. بعضهم انتقل للعيش في الدنمارك أو إسبانيا، و«نحن نلتقي هناك من حين إلى آخر مع عائلاتنا». اليوم شارفت زيارة الشريف على الانتهاء، فهو لن يقضي شهر رمضان مع أهله هنا رغم «حلاوته في لبنان» كما يصفه. يضيف: «سأعود إلى ألمانيا لأقضي أسبوعين، ثم سأتوجه والعائلة، في رحلة سياحية إلى تايلاند»، يقول.
تايلاند؟ تبقى الكلمة معلقة في فضاء المخيم كوجهة سحرية، فيما ينصرف هو إلى يومه.


يعتمد الفلسطينيون
في مخيمات لبنان، كالعديد من العائلات اللبنانية تماماً، على المساعدات التي يرسلها المغتربون منهم لأهلهم. لكنّ هؤلاء المغتربين، رغم بعدهم عن مخيماتهم، لا ينقطعون عن النشاطات الاجتماعية التي تُجرى فيها. فالمقتدرون منهم يعودون إلى المخيمات للمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي يقيمها أبناء قراهم التي هجروا منها في فلسطين، مثل انتخابات رابطة ترشيحا التي أتى للمشاركة فيها عدد من اللاجئين، أتوا خصيصاً من الدنمارك والسويد.