28 بغداديّاً فضّلوا البقاء بالسرّ على المغادرة لإسرائيلبغداد ــ زيد الزبيدي
تشير المعلومات إلى أن المعبد اليهودي الوحيد الباقي في أحد أحياء بغداد موصَد بإحكام، وقد ملأ جنباته الغبار، وتحوّل أحد جوانبه إلى مكبّ للنفايات، بما أنه مغلق منذ 18 عاماً، ولا أحد يعرف ما إذا كان سيُفتح في يوم من الأيام. ويعود آخر زواج شهدته الطائفة اليهودية في العراق إلى أكثر من ثلاثة عقود... «إنّها الشمس اليهودية تأفل في العراق على 28 يهودياً (بدأوا) الشوط الأخير من رحلة العمر»، وهم يخشون الكشف عن هويّاتهم.
ونقلت وكالة «بابنيوز» الإخبارية عن العراقي اليهودي «أبو سيف»، أنه يخفي ديانته أمام زملائه في العمل، خوفاً من التعرّض للانتقاد واللوم وربما «الانتقام»، لكنّ جيرانه في حي البتاويين وسط بغداد يعرفون الكثير عنه، وعن طائفته اليهودية التي احتفظ بها سراً منذ سنوات طويلة، بحسب وصيّة والده.
ويعمل «أبو سيف» الخمسينيّ، موظّفاً حكومياً في إحدى الوزارات، ويقول إنّ عائلته انتقلت من مدينة الموصل إلى بغداد في خمسينيات القرن الماضي، وسكنت في منطقة الفضل، ثم غادرت بعد السبعينيات إلى البتاويين، كي تخفي دينها، بعد تعرّض اليهود العراقيين لحملات انتقام متعاقبة.
ويكثر أبو سيف، الذي أطلق أسماءً عربية على أولاده «لإبعادهم عن المشاكل»، في الحديث عن السيدة مارسيل، وهي امرأة مسنّة تعيش في أحد بيوت البتاويين، ويقوم بعض المسيحيّين بخدمتها، لأنها رفضت أن تغادر مع عائلتها إلى إسرائيل في ستينيات القرن الماضي، لأنها أحبّت يهودياً أراد البقاء في العراق، لكنه قُتل قبل أن تتزوج به، ففضّلت البقاء وحيدة في العراق... بانتظار الموت.
ولا يحتوي المعبد اليهوديّ الوحيد الباقي في بغداد، الذي يقع في منطقة البتاويين، على أيّ مظهر من مظاهر الحياة، فأبوابه التي بدت موصدة بإحكام، اكتست بلون الغبار، فيما حوّل بعض السكان أحد جوانبه إلى مكبّ للنفايات.
ويقول فادي، الجار، المقرّب لأبي سيف في حي البتاويين، إنّ المعبد لا يزال مغلقاً، وإنّ هناك أحد رجال الدين اليهود يمر شهرياً بالمكان لتفقّده، ثمّ يعود من حيث أتى، من دون أن يقيم أيّ طقوس فيه.
وتشير الإحصائيات الأخيرة، التي أعلنتها «الوكالة اليهودية» المشرفة على هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى دولة الاحتلال، إلى وجود 34 يهودياً فقط في بغداد، معظمهم من كبار السن، وقد أشرفت الوكالة على تسفير ستّة منهم، فيما رفض 28 مغادرة البلاد، وتمسّكوا بالبقاء في العراق.
وعقب نهاية الحرب عام 2003، تتبّعت الوكالة مسار اليهود العراقيين الباقين على قيد الحياة، لمعرفة ما إذا كانوا يرغبون في العيش في إسرائيل، حسبما يقضي «قانون العودة» الإسرائيلي، الذي يمنح يهود العالم حق «الإقامة» في فلسطين المحتلّة. ولم تعثر الوكالة سوى على 100 شخص فقط من الطائفة التي يعود تاريخ وجودها في العراق إلى أكثر من 2500 عام، ووصل تعدادها في أوجه إلى 130 ألف يهوديّ.
واعترفت الوكالة نفسها بأنّ «شمس الطائفة اليهوديّة غابت عن العراق بعدما هاجر شبابها إلى إسرائيل، ولم يبقَ إلّا كبار السن الذين عاشوا بالقرب من المسيحيين، وأخفوا ديانتهم خوفاً من الاستهداف»، فيما يطالب مهاجرون في إسرائيل، عراقيّو الأصل، باستعادة الممتلكات القديمة التي تركوها وراءهم في البتاويين وشارع السعدون، وغيرها من المناطق.
ويُعَدّ يهود العراق من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، ويرجع تاريخ وجودهم إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الأخيرة 911 ـــــ 612 ق م. وتروي الأدبيات اليهودية أن الآشوريين قاموا بحملات عدّة على فلسطين، ونقلوا اليهود منها إلى أماكن جبلية نائية شمال العراق. ولمّا قضى البابليون على الآشوريين وأسّسوا دولتهم في بابل 612 ــــــ 359 ق م، كان من أهم أعمالهم ـــــ حسب المرويّات اليهودية ـــــ القضاء على مملكة يهوذا في فلسطين، وسبي يهودها إلى بابل على يدي نبوخذ نصّر الثاني، الذي حكم في ما بين 605 ـــــ 562 ق م.
واشتهرت الجالية اليهودية في العراق بممارسة الحرف، وعمل معظم أفرادها في صياغة الحلي الذهبية والتجارة والخياطة، لكنّ عدداً من يهود العراق دخلوا مجالات أخرى مختلفة مثل الفن والسياسة. وكان أوّل وزير للمالية في الحكومة العراقية الحديثة التي تألّفت عام 1921 يهودياً، هو ساسون حسقيل.
وبعد إعلان إسرائيل عام 1948، تصاعدت الحساسيات الاجتماعية بين اليهود وباقي العراقيين، لم تسمح حكومة بغداد لليهود في البداية بالسفر إلى إسرائيل، لكنها أصدرت في ما بعد قراراً يسمح لهم بالمغادرة، شرط تخلّيهم عن الجنسية العراقية. وهكذا، هاجر معظم أفراد الطائفة من العراق بين 1949 و1950. وفي مطلع الخمسينيات، بقي 10 آلاف يهودي في العراق من أصل 115 ألف نسمة عام 1948.
وبوصول عبد الكريم قاسم إلى السلطة عام 1958، رفع قيود السفر والقيود الأخرى عن اليهود الباقين في العراق، وبدأت أوضاعهم تتحسّن. لكن، عند تسلّم حزب البعث السلطة، عانى اليهود من حظر على تحركاتهم وسفرهم، حتى جرى تغيير اسم طائفتهم إلى «الطائفة الموسوية».
وفي عام 1969، أعدمت الحكومة العراقية عدداً من التجار، كان معظمهم من اليهود، ما أدى إلى تسارع هجرتهم. وعند دخول القوات الأميركية إلى العراق في نيسان 2003، كان مجموع اليهود الباقين في العراق أقل من 100 شخص، معظمهم يسكنون بغداد ومنطقة كردستان، والغالبية العظمى منهم من كبار السن والعجزة.


مرقد ذي الكفل