الشامتون بانفراط عقد جمعية البرادعي يبحثون عن «بقرة مقدسة»وائل عبد الفتاح
هل تبخّرت فرصة محمد البرادعي؟ الخلافات بين «الهيكل القيادي» للجمعية الوطنية للتغيير، والمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وصلت إلى العلن، والصحافة تتناقل أخبارها، وفرق الحراسة الصحافية لنظام حسني مبارك تعزف لحن الشماتة بسعادة بالغة.
تزامنت الشماتة مع مناورات استعادة الأرض في انتخابات الشورى، التي كانت تجريبية في استخدام أساليب الدفاع عن المقاعد. لم يكن المهم فيها فوز الحزب الوطني بالثمانين مقعداً، بل رسالة التحذير التي أطلقتها فرق التزوير المدرّبة، وأكدت من خلالها أن «لا شيء تغيّر».
التغيّر الوحيد باتجاه فوضى تلتهم مؤسسات الدولة، وتنهي حالات التواطؤ الواهمة: يثور المحامون على وكلاء النيابة والقضاة في طنطا، ويستدعي البابا شنودة الرئيس مبارك ليوقف حكماً قضائياً يبيح الزواج الثاني للأقباط، وهو ما يمسّ سلطته الدينية، ويجعله يرفع الإنجيل في وجه القانون ويحرّض الرئاسة على القضاء.
فوضى متعددة، هي نتيجة تكسير المجتمع لأسوار النظام العالية حول مؤسساته وبطاركته. هنا يبدو الخلاف بين البرادعي وقادة الجمعية جديداً وإيجابيّاً.
المختلفون مع البرادعي غالبيتهم شخصيات تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط السياسية، وهم جميعاً من أصحاب النيّات المخلصة لفكرة التغيير. لكنهم جميعاً، من فرط أملهم بالبرادعي، دفعوه دفعاً إلى «صناعة كيان» هو الجمعية الوطنية للتغيير، قبل أن يستكشفوا ما يريده الرجل الآتي من ثقافة سياسية مختلفة، وله تصور آخر عن صنع طريق للتغيير السياسي في مصر.
بقوة النيّات المخلصة، تصوّرت هذه المجموعة أنّ على البرداعي، لكي لا يكون «سائحاً»، أن يسير على برنامج ساروا هم فيه عشرات المرات ووصلوا إلى حائط مسدود. وكان من المدهش السعي إلى «هيكلة» الجمعية وتوزيع المناصب قبل اكتشاف «الكيمياء» بين البرادعي وكل هؤلاء المخلصين لفكرة التغيير.
ومن بعيد، بدت الصورة كأن البرادعي أصبح سفينة، قفز إليها مجاريح الحياة السياسية، بكل تاريخهم مع «الممارسة السياسة» في مصر، وهجموا على منطقة فراغ جديدة يستعيدون فيها ذاكرة «الخناقات» والصراعات. البرادعي يغويه دور الداعية السياسي أكثر من السياسي. يرى نفسه في صورة غاندي أو مارتن لوثر كينغ. صورته استفزّت كورس المجروحين، الذين أرادوه قاطرة، وأراد نفسه خفيفاً بلا برنامج ولا جهاز سياسي. وهذا ما صدم ركاب السفينة، وقبل أن يقفزوا منها، قفز البرادعي وأصبح هناك كيان بلا رمز، ورمز تعجّل صنع كيانه، والآن هو وحيد في مواجهة فوضى الملعب السياسي.
الخلاف هنا صحي تماماً، وفي مصلحة التغيير الذي لن يأتي بمجرد ظهور مرشح قوي من دون ضمانات، أو بدون تغيير قواعد اللعبة التي يسيطر عليها نظام خبير بحرق كل الفرص الممكنة.
هناك مزاج عام في الجمعية لم يعد يطيق انفلات البرداعي من الصورة التي انتظروها منه. ونشروا خلافهم معه في الصحف مع إشارات إلى أن نيّاته غامضة، أو أنه لا يريد النزول إلى الميدان (أو الشارع). وهذه كلها مصطلحات من تراث السياسة المصرية الثقيل. وهي إشارة إلى اختلاف بين عقلية لا تزال تعيش في صور قديمة «عن جماهير منتظرة، وشارع ينتظر إشارات المنتظرين ونزولهم من أبراجهم».
الصورة هذه كانت عند المؤمنين بالدولة الناصرية بعد رحيل جمال عبد الناصر. تخيّلوا أن الجماهير ستزحف خلفهم ضد الرئيس الجديد (أنور السادات) لتعيد الدولة بتركيبتها وأسرارها الكهنوية، التي تخيّل المتيمون بها أن الجماهير تعبدها. معنى «النزول» المختلف عليه هنا هو: تنظيم تظاهرات ضد النظام، ومواجهة عساكر الأمن المركزي.
المواجهات منذ ٢٠٠٤ تقريباً كسرت حاجز الخوف واحتكار الشارع الذي حوّلته أجهزة الأمن إلى مربعات حديدية، وزنازين مفتوحة. تظاهرات الاحتجاج نقلت المجتمع من حالة الصمت إلى حالة الصراخ، وهذا ما أراد النظام، بذكاء وخبرة، أن يستثمره ليكون علامة على ديموقراطيته، لكن بعد أن يسيطر عليه بالحواجز الحديدية، وباليد التي تضرب بشراسة في أوقات غامضة.
النزول إلى الشارع هنا، حتى هذه اللحظة، خروج الصوت المحبوس منذ ٢٥ سنة تقريباً. التظاهرات تزامنت مع عودة التعبير المدني عن الاختلاف مع النظام، بعد سنوات من احتكار المعارضة ذات النبرة الدينية للمواجهات مع السلطة.
عقل السلطة مرن، لكن نواته الصلبة عسكرية، لا تقبل بالاختلاف، أو بمشاركتها في الشارع. وأهم ما أحدثته موجات كسر حاجز الخوف المتتابعة منذ خمس سنوات، هو إجبار العقل العسكري الحاكم على القبول بمشاركة المجتمع له في الشارع. لم يعد «الشارع لنا»، لكنّ ثقافة الخوف في مصر تبخّرت إلى حدّ كبير.
البرادعي يمثّل نقطة إضافية على حركة المجتمع المدني المتصاعدة منذ ٧ سنوات، وربما أكثر. المجتمع، الذي يستعيد صوته وعافيته، أصبح مفتوحاً على أفكار ومسارات متعددة للتغيير، وهذه هي ميزة يمكن الاستفادة منها بظهور البرادعي، الذي يمكن أن يضيف بروح غاندي إلى تجارب المجتمع المدني. هذا بالطبع إذا كانت أيام ما بعد العودة إلى القاهرة قد منحته فرصة التعرّف إلى الظرف السياسي الراهن في مصر، وكشفت له بعض تعقيداته.
حركة البرادعي تبدو من بعيد مرتبكة ومتلعثمة. هذه ميزة، لأنها تخرج به من حيّز القوالب الجاهزة للعمل السياسي في مصر. الشماتة في خلاف البرادعي مع جمعية التغيير، قصر نظر سياسي، لأن أصحابها لا يرون أن توسيع المجتمع لقنواته يحتاج إلى ألف يد، وألف طريقة، والشامتون لا يريدون سوى العودة إلى الإيمان بالبقرة المقدسة، والسير خلفها، لأنها القدر والطريق الوحيد.