strong>وائل عبد الفتاحخالد سعيد شاب من الإسكندرية، قتلته الشرطة، وحاولت بمساعدة سلطات أخرى تزييف رواية القتل. لكن الصور عدلت الوضع لتطالب العائلة بإعادة التحقيق، ويستجيب النائب العام، ويهتف الآلاف كل يوم في الشوارع وعلى صفحات الإنترنت: «كلنا خالد سعيد»

مصائد السلطة



«فجأة ستجد نفسك وحيداً، مثل فأر في متاهة...». تتناول الحكايات تجربة دخول قسم الشرطة، لتصل إلى هذه النقطة.تختلف التجارب ونهايتها هذه «المتاهة» التي يتحول فيها الإنسان إلى شيء يسير بإرادة أخرى، أسير، من دون إرادة، لمؤسسات تتحالف لحظة اصطياده، وتتنافس في استعراضات السلطة ونفوذ أصحابها.
نيابة الإسكندرية شاركت في النهاية المريبة لقصة خالد سعيد، وأفرجت عن المتهمين بتعذيبه، واعتمدت تقرير الطب الشرعي المستند إلى رواية الشرطة.
سيناريو جاهز لإنقاذ وحوش الشرطة من الإدانة، يشارك فيه ممثلو مؤسسات النيابة والتحقيق، بروتينية باردة، وشعور بالانحياز ضد الفرد العادي. ما دام عادياً.قصة خالد خرجت عن النهاية التقليدية، حيث تنتصر الشرطة، ويفلت المجرمون، ويضاف الود اللطيف إلى علاقة المؤسسات، رغم تعارض أدوارها.
جثة خالد سعيد دخلت المتاهة، دارت الماكينة المعتادة، ليفتح الدرج ويخرج ملف متخم بالجرائم، سيرة أخرى بعد الموت من صنع السلطة. الملفات جاهزة، على الشرطي المسؤول كتابة الاسم ثلاثياً (في مصر الأسماء ثلاثية ورباعية). وفي الثلاثي تتشابه أسماء الآلاف، وسيصنع التاريخ الإجرامي في لحظة، ما دام الفرد لم يدفع الرشوة، أو ما دامت المؤسسة الأمنية تريد من الأرشيف الإلكتروني مساندتها في صنع المتاهة.
لكن قصة خالد لم تنته النهاية المعتادة. أفزعت المجتمع وكسرت حواجز الخوف من المؤسسات المتحدة على الفرد.
المجتمع خرج عن نص الرواية، وأجبرت المؤسسات على فض التحالف جزئياً. وقرر النائب العام إعادة التحقيق واستخراج الجثة من جديد، في انتصار نسبي لحركة المجتمع ضد التعذيب والقتل العلني.
النيابة نفسها تدخل في معركة إرادات على السلطة مع المحامين. وكيل نيابة صفع محامياً، وأصدر أمراً باعتقاله. لم يتحمل المحامي الإهانة، ولم ينتظر استرداد الحق عبر القانون، رد الصفعة بأقوى منها.هنا تحولت مؤسسة النيابة إلى حالة الدفاع عن نفسها، تورطت في حرب مع المحامين. وأصدرت المحكمة حكمها القاسي في ساعات بحبس المحامي خمس سنوات.الحكم القاسي المنفعل أثار ما تسميه الصحافة «فتنة العدالة». أضرب المحامون، واشتعلت تصريحات ساخنة، ومحاولات وساطة، كأنها حرب قبائل، بلا قانون.
هكذا، لم تدافع النيابة عن قتيل، رغم أن مهمتها هي الدفاع عن القانون، بينما دافع القضاة عن صفعة زميلهم، بينما تناسوا صفعته التي تشير إلى أنه لم يتلقّ تدريباً يقول له إن السلطة هنا خادمة للمجتمع وليست فوقه.
حرب القبائل ستنتهي بين النيابة والمحامين بانتصارات صغيرة، مريحة للطرفين، لكن المجتمع سيدفع أثمان هوس البحث عن السلطة. وكيل نيابة يفرض على الداخلين إلى مكتبه خلع الحذاء، ورئيس له يعلمه في معهد الدراسات القضائية أن يكون رحيماً بالمحامين، فهم زملاء كليته وكان من الممكن أن ينالوا المصير نفسه لولا الشطارة والمهارة والذكاء. البحث عن سلطة يتوازى مع ملاحظات قوية على فساد مؤسسات (الحماية من الفساد)، وانتشار التعيين بالواسطة والتوريث العائلي. هيبة السلطة هنا أقوى من العدالة، والتعذيب هو ضريبة يدفعها كل مصري لكي يكتب نظام مبارك لافتة كبيرة تقول: «ادخلوها آمنين». ولكي تغني صحافة النظام نشيد «مصر بلد الأمن والأمان». الأمن ليس نجاح جهاز الأمن في السيطرة على المصريين، لكنه في شعور الفرد العادي بالأمان وهو شعور غائب، وخصوصاً بعد تحالف المؤسسات لحماية الهيبة الضائعة. الفرد العادي في مصر أسير تحالف مجنون بين السلطات، تصب كلها لتحويل أقسام الشرطة إلى سلخانات تعذيب، والشوارع إلى مسارح قتل علني. فوضى مخيفة، البقاء فيها للأقوى والأكثر شراسة. جميع السلطات تحتاج إلى الشرطة لتحسم صراعها مع سلطات منافسة، والضباط يجدونها فرصتهم، للاستمتاع بلذة التعذيب. هم مرضى يشعرون بالراحة عند إذلال الآخرين، وصنع الألم لهم. ومجرمون في ثياب رسمية، تخلوا عن وظيفتهم في تحقيق أمن المجتمع، وغرقوا في تحقيق هيبتهم، وفرضها على المجتمع. القتلة أقاموا حفلتهم في الشارع، سحلوا خالد وحطموا جمجمته قبل أن يصلوا به إلى القسم. الجمجمة التي يمكنها الاحتجاج لا بد من أن تُحطَّم. هذه عقيدة الوحوش الذين يحملون تصاريح بالتعذيب والقتل. وخالد هو العلامة التي أطارت النوم من أعين الملايين، ليشعر «الناس العاديون» بأنهم في مرمى الوحوش القاتلة.
كيف يمكن أن تتخيل شخصاً يخرج من بيته، ثم فجأة يتحول إلى جثة مشوهة ملقاة في الشارع، والجمهور يتفرج بصمت وخوف. كيف يمكن أن تشعر بالأمن، بينما هناك مؤسسات كاملة تستطيع تلفيق التهم وتحويل أي شخص من ضحية إلى مجرم. التعذيب هو سلعة النظام إلى مواطنيه، تشترك المؤسسات في صناعة الرعب اليومي، لفرد يتدرب سراً على تجنب مصائد السلطة... ومتاهاتها.

حرب الصورة



لم تعد الدولة هي الصانع الوحيد للصور. صورة خالد سعيد أحدثت صدمة دفعت الجموع المستسلمة إلى فزع مفرط. للمرة الأولى تدخل شرائح غائبة من المجتمع إلى مساحات الغضب الجماعي
ارتدى شباب الإسكندرية ملابس سوداء وانتشروا على كورنيش البحر، علامات حزن، وغضب تجسدها هتافات «يا حضرات الضباط... روحوا جنينة الحيوانات».
الهتافات اختلطت مع هتافات عن سقوط النظام، وأخرى عن المطالبة بحق القتيل. الصورة جعلت من شاب عادي رمزاً في الحرب على مؤسسة التعذيب.
مؤسسة التعذيب هي إحدى مؤسسات الاستبداد، تسيطر على المواطنين بتقنيات بثّ الرعب. آلاف من أصحاب البذلات السوداء يحاصرون مجموعات صغيرة من المتظاهرين، وصور ضرب ومطاردات واصطياد نشطاء تبقى في الأذهان، للقول إن السلطة جبارة ويصعب مقاومتها، بينما يظهر المسؤولون في الشاشات ببذلات نصف أنيقة، وسحنات مبتسمة، تقدم الوجه الآخر للصورة.
لكن الشاشات لم تعد ملكاً للدولة، كذلك فإن حرب الصور هذه المرة، طرفها الآخر هو المجتمع الذي يمتلك فضاء صور أكثر حرية في الفيس بوك، والتويتر، والمنتديات الواسعة لشباب، ليس لديهم مشروع سياسي، لكنهم يحلمون ببلد لا يقتلون فيه من سلطة مهووسة بجبروتها.
الدولة تعرضت من قبل لهزة عنيفة في ما سمته «حرب الإرهاب»، اكتشفت أن محترفيها القدامى لا يصلحون لرسم صورة الدولة في حالة حرب مع «عدو داخلي». استدعت الدولة رسامين محترفين ومنحتهم فضاءً أوسع وحرية في الحركة، تمنعها عادة عن الفضاء العام. من هنا اتسع مجال الحريات قليلاً. واستعادت الأجهزة الإيديولوجية بعض حراسها المعتزلين، وأضافت وجوهاً جديدة واكتملت خطوط «جيش التنوير» مقابل «جيوش الظلام»، وتخططت أرض المعركة على طريقة الحروب في أفلام بداية الدعوة الإسلامية: فريق كفار وفريق مسلمين.
لم يكن هناك مجال للحياد أو للكلام المختلف في وصف المعركة وفق تقسيم «النور» و«الظلام». معركة حياة أو موت، بالقانون أو خارجه. دافعت الدولة عن مصيرها في مواجهة «غزوات» أمراء اليوتوبيا الإسلامية وجيوش أتباعهم.
الألوان كانت مهمة هنا في الاختيارات. ألوان تشبه ألوان الحروب: علامات وبروباغاندا تجييش ضد عدو أليف، من داخل البيت. الأفكار والصور وظفت أيضاً كبروباغاندا الحروب.
العدو الأليف أصبح أسير حكاية واحدة ترويها سلطة الدول بالصور، حكاية هزمت الإرهابي، ومنحت للضابط شعوراً متداخلاً بالنصر والانتقام. يريد فاتورة الانتصار، والانتقام من التهديد الذي تعرض له.
هذه المرة الصور تفضح النظام، وتحرض المجتمع على سلطاته المنفلتة، تريد إعادة الشرطة إلى حجمها الطبيعي، والمجتمع يريد الانتقام، والأمن فقط.

عقلية تبرير القتلالأستاذ محمد علي إبراهيم، رئىس تحرير «الجمهورية»، نجم لامع في السلاح، حجز موقعاً منفرداً، وقام بعمليات انتحارية، ربط حوله حزام شتائم ناسفة، وهدد كل من يقترب من النظام والحكومة، وأثبت كفاءات نادرة تنتمي إلى عصور ما قبل الصحافة والإنسانية الحديثة.
إلا أنه، من فرط استخدام الحزام الناسف، ومن ثقل المنافسة على المواقع المميزة في السلاح، لم يعد قادراً على تمييز المعارك ولا طريقة دخولها، وكتب تعليقاً على حالة الفزع من قتل خالد سعيد، مقالاً لا بد من أن يدرّس في أقسام تهتم بآخر منتجات الاستبداد الشرقي.
المقال يحمل عنوان «وقفة احتجاجية من أجل حشاش»، وهو قطعة نادرة من أدب التعذيب، لأنه يكشف عن خلفية ترى أن من حق الشرطة قتل الحشاشين. هكذا من دون قانون ولا محاكم ولا قواعد اتفقت عليها الدول الحديثة في عقاب الخارجين عن القانون.
من قال إن الحشاش يقتل؟ هذه عقلية تفكر بمبدأ «صفعة الحكومة خير»، وهو مبدأ يقوم على أنه إذا صفعك ضابط أو عنصر شرطة فهذا أفضل من اقتيادك إلى القسم وتعرضك للعقاب.
هذه العقلية تبرر القتل خارج القانون وتفلسف التعذيب بدل الدفاع عن حق الشخص العادي في الحماية من السلطة المنفوخة.
من قال إن خالد سعيد حشاش؟ الإجابة: بيان الداخلية. ومن صاحب الرواية الكاذبة عن قتله؟ الإجابة: الداخلية.
الربط المنطقي يقول إن المصلحة واحدة، الداخلية قدمت رواية، صاغها عقل قديم لم يستوعب بعد أن هناك وسائل حديثة يصعب السيطرة عليها ويمكنها أن تنشر روايات حقيقية.
العقل القديم لم يستوعب متغيرات جعلت الصحافة الشعبية على الإنترنت أقوى وأسرع وأكثر ميلاً للحقيقة، من روايات تعتمد على السيناريو الجاهز للتلفيق وتبرير القتل.
هذه مستجدات خلخلت قدرات السلطة على احتكار الحقيقة، وهذا ما يزعج سلاح الببغاوات باعتبارهم وسطاء السلطة، وحاملي الروايات الكاذبة نفسها.
نشر الصورتين حرض مشاعر العداء لمؤسسة التعذيب، الفارق بينهما، رواية واحدة عن اعتداء وحشي على الملامح الرقيقة، بكل ما تمتلكه مؤسسة التعذيب من أدوات التشويه والقسوة، والعنف الخالي من العقل والرحمة.
هذا الكشف صعب على فهم من تربى على سماع التعليمات، وينتظر التليفونات، ويدبج روايات كاذبة، من دون إبداع ولا موهبة، ولا حنكة خبراء قدامى، مهما كانت تبعيتهم للسلطة، فإن لهم حدوداً في التبرير والكذب.