آب الماضي، وعد وزير الداخلية بإعادة إصدار بطاقات التعريف لفاقدي الأوراق الثبوتية، بعد تجميد القرار 11 شهراً. كانت العودة مرهونة «بتحديد الشروط التي يجب توافرها بمقدم الطلب». مر آب، وتأجل الوعد حتى أوائل الجاري، حين عاد الأمن العام لمنح البطاقات. لكن، حتى هذه العودة لا تزال بطيئة، ودون أسباب واضحة
راجانا حمية
دخلت الجدة إلى مقر السفارة الفلسطينية في لبنان، متأبطة جواز سفر فلسطينياً... بلغ من العمر عتيّاً. حملت سنواتها الثماني والستين، قاصدة قسم الجنسية. كان سؤالها واضحاً «كيف ببطّل عزبا يا إبني؟».
الجدة، التي تحمل كل هذا العمر، لا تزال، بعد سنوات طويلة من الزواج، «تحت نصيبها». لم ينفعها رزق الله بعشرين ابناً وحفيداً في تغيير وضعها العائلي المستقرّ منذ خمسين عاماً في خانة «عزباء».
عندما رحلت الجدة من أرض فلسطين، حملت معها من هناك جواز سفر وبعض المتعلقات الضرورية. لا أكثر ولا أقل. وصلت إلى لبنان، بلد اللجوء المؤقت حينها، فبدأت المسيرة مع الفقدان. مرت 50 عاماً. أنجبت الجدة أولاداً وأحفاداً. سمّتهم وزوّجتهم. لكنها، في السجلات الرسمية، لا وجود لها وفي العرف العام هي «أم عزباء». وهم؟ لا وجود لهم.. و«أبناء زانية» في مجتمع يحرمهم من أبسط الحقوق الإنسانية: بطاقة تعريف لهاربين من حرب 67 وأحداث أيلول الأسود، اصطلح على تسميتهم «فاقدي الأوراق الثبوتية». علماً بأن أبناء الأم العزباء يحصلون على جنسية الوالدة.
سنة تلو الأخرى، ولا شيء يتغير سوى أن العدد يكبر يوماً بعد يوم. جيل وجيلان والآن الثالث، ولا قرار رسمياً بإعطاء تلك الفئة أوراقاً تعيد إليهم حياة يومية لا يمارسونها كغيرهم من المصنفين لاجئين شرعيين. أبسطها الزواج. التنقل. الإنجاب الطبيعي لا بالتزوير. الحياة.
لا تزال الجدة «عزباء» منذ 50 عاماً برغم 20 ابناً وحفيداً
اليوم، لا تزال الحال كما هي. يصدر تعميم بالمنح من «الداخلية» تتبلغه المديرية العامة للأمن العام ويموت فجأة، ثم يعود، وهكذا دواليك. آخر تلك التعاميم، صدر شباط الماضي ويقضي بالعودة لتزويد هؤلاء ببطاقات. لكن، كما هي العادة، لم يسر التعميم طبيعياً. أكثر من ذلك، ثمة استنسابية في منح البطاقات، كأن تمنح للأطفال ولا تمنح للوالد والابن البكر. والسبب؟ لا يجد القنصل في سفارة دولة فلسطين محمود الأسدي رداً منطقياً، مشيراً إلى «أن أسباب رد بعض الطلبات غير منطقية، ومنها اعتبارهم أن الأوراق المطلوبة غير دقيقة». لكنّ ثمة أسباباً أخرى، ويذكر منها «تخوف الداخلية والأمن العام من العدد، إذ وصلت الأخبار إلى هناك أن العدد يفوق 4 آلاف». وماذا لو كان العدد 20 ألفاً؟ أهو طلب جنسية؟ أم تسوية لوضع غير طبيعي وغير إنساني؟ لكن، إذا ما عدنا إلى طلبات إثبات الجنسية في سفارة دولة فلسطين، فلم تتعدّ 2992 طلباً. هذه هي المغالطة الأولى. فعلى الرغم من ضآلة العدد، إلا أنه حتى الشهر الجاري، لم تسلم المديرية أكثر من 400 بطاقة من أصل 1660 تقدموا إليها. ثمة مغالطة أخرى، وهي الآلية غير الواضحة في المديرية، التي كان قد وعد وزير الداخلية زياد بارود بتنظيمها أواخر آب الماضي والمباشرة بالمنح على أساسها. مرّ آب، ولم يبقَ لآب المقبل سوى شهر، ولا تزال الآلية ضائعة. فرغم أن المستندات لا تتعدى مجرد كونها إفادة سكن من المختار وبطاقة إثبات جنسية من سفارة فلسطين واستمارة من الأمن العام، إلا أن الأمن العام إلى الآن لم يتفق على «من هم فاقدو الأوراق الثبوتية؟». ويطرح جملة تساؤلات «ماذا عن حاملي الجوازات الأردنية ووثيقة السفر المصرية؟». لا الأمن العام يملك الإجابة ولا حتى «الداخلية». والفلسطينيون المنتظرون ينتظرون. فإذا كانت الآلية واضحة بعض الشيء في ما يخص إثبات الجنسية الفلسطينية «ولو أتينا بها من فلسطين»، حسب الأسدي، إلا أن الصورة لم تتوضح إلى الآن في روزنامة الأمن العام. حتى فلسطين لم يستقر اسمها في استمارة المديرية، فبدل أن تكون كما في بطاقة الإثبات «البلد الأصلي»، هي هنا «بلد اللجوء الأساسي». أما ما يزيد الطين بلة فإن أسباب الرفض غير واضحة أيضاً، وقد استبدلت عبارة الرفض بعبارة «غبلك شي شهر». وكلما مر شهر، تجدد بطاقة المراجعة كي يتمكن فاقد الأوراق من التنقل. لكن، حتى هذه الورقة لا تحميه. حالها كحال ورقة إثبات الجنسية عند الحواجز العسكرية، حيث يخضع أمر المرور لمزاج آمر الحاجز.
إذاً، لا تبريرات. لكل هذه الأسباب، يحضر المعنيون بالملف، ومنهم قسم الجنسية في السفارة، للقاء مع المعنيين في الأمن العام لمعرفة الأسباب الواضحة. وبموازاة ذلك، تتابع الجمعيات الأهلية الملف. وفي هذا الإطار، تحضّر جمعية «راصد» مجموعة رسائل «تبدأ بالأمن العام وممثل منظمة التحرير الفلسطينية عبد الله عبد الله»، يقول المدير التنفيذي في الجمعية عبد العزيز طارقجي. وعلى أساس رد الطرفين، يتحدد محتوى الرسالة الموجهة إلى الداخلية. وهنا، يشير طارقجي إلى أنه «إذا لم يأت الرد واضحاً من الوزارة، فستكون الخطوة التالية مجلسي الوزراء والنواب ورئاسة الجمهورية». كل تلك الرسائل ولدت في اللحظة الأخيرة، بعد فشل راصد في جمع منظمات انسلّت من الموضوع، معتبرة أن «منظمة التحرير تقوم بدورها».
لا قرار موحداً لا في الدولة اللبنانية ولا حتى على صعيد الفلسطينيين. أقله إلى الآن. وبانتظار الاجتماع بين الجانبين، لا يعود أمام اللاجئين «غير الشرعيين» سوى التخفي، بانتظار قرار يعيدهم إلى الحياة الطبيعية.


منتصف عام 2008، عملت المديرية العامة للأمن العام على تزويد فاقدي الأوراق الثبوتية ببطاقات تعريف، وقد سلمت حينها 851 بطاقة من أصل 1850. لكن، لم يكد التعميم يدخل حيز التنفيذ، حتى صدر قرار وزير الداخلية بتجميد التعميم، مؤقتاً، بانتظار «تحديد الشروط التي يجب توافرها في مقدم الطلب والحؤول دون حصول من لا يستحق على البطاقة». استمر المؤقت 11 شهراً، وانتهى بوعد بارود بالعودة لإصدار البطاقات أواخر آب الماضي. وعد آخر سرعان ما تأجل 5 أشهر، ليعود بعدها الأمن العام إلى إصدار البطاقات ببطء منذ مطلع شباط الماضي.