أما وقد أصبح ملف تأليف الحكومة العراقية في يد الجوار، بفعل الطريق المسدود الذي آلت إليه آليات الاختيار المحلية، فلا بد من الوقوف على مصالح هذه الدول ومشاريعها في المنطقة، علّ ذلك يوفر معطيات يمكن أن تشير إلى الاتجاه الذي تأخذه المفاوضات التي تجري في كواليس العواصم الإقليمية، وإلى الصفات المطلوبة من الحاكم المقبل للعراق، على مشارف الانسحاب الأميركي
إيلي شلهوب
يبدو جليّاً أن العراق، هذا البلد الذي مثّل على مدى عقود رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية، قد بات أرضاً مفتوحة تعصف بها الرياح من الاتجاهات كلها. أرض كانت ذات يوم عصيّة على الخارج، أصبحت اليوم عرضة لعدوى اللبننة والصوملة وما إلى ذلك من ميكروبات تملكت بدول هي أقرب إلى جمهوريات الموز منها إلى البلاد، مكتملة عناصر النشوء والقوة، قبل أن تبني ميكروباً خاصاً بها بات يعرف بمصطلح «العرقنة».
واقع زادت من حدته حال التشرذم داخل البيت العراقي، على ما يظهر الآن في أوضح تعبيراته في سياق مفاوضات تأليف الحكومة العتيدة، بل بلغ الأمر حداً يُختصر فيه النقاش في هذا الملف بسؤال لا يزال ينتظر جواباً: هل حق اختيار حكام العراق بيد الداخل، فيما حق النقض بيد الجوار أم بالعكس؟ ولو أن الاتجاه، على ما يبدو، يميل إلى «العكس». وإذا كان الوضع على هذه الحال، تصبح ضرورة معرفة خريطة المصالح التي تحدد سلوك دول الجوار حيال العراق.
لعل البلد الأكثر انخراطاً وتأثيراً في الواقع العراقي هذه الأيام ليس سوى إيران، التي تقارب هذا الملف من زاوية استراتيجية، لها علاقة بمعادلة توزع القوى والصراع في المنطقة. يبدو واضحاً أنّ الهدف الأساس للنظام الإيراني إقامة حكم في بغداد يضمن أن تكون بلاد الرافدين جزءاً لا يتجزأ من محور الممانعة. حلقة وسطية تضمن التواصل بين عمقه الاستراتيجي (إيران) وقاعدته اللوجستية (سوريا) وخطوطه الأمامية (غزة وجنوب لبنان). بديهي أن عراقاً من نوع كهذا سيعزز هذا المحور ويضيف إليه من عناصر القوة ما يساعده على إملاء قوانينه على لعبة العلاقات في المنطقة. مثلما هو بديهي أن عراقاً ينتمي إلى الجبهة الأخرى يمكن أن يكون له تأثير مدمر على هذا المحور. وهذا ما يفسر القرار الإيراني الضمني باستئصال أي نفوذ لمحور الاعتدال (وخاصة السعودية ومصر) في الداخل العراقي. حتى الحياد مرفوض، بناءً على هذا المنطق (ولعل ذلك سبب عرقلة التجديد لنوري المالكي صاحب شعار «العراق أولاً»).
هدف النظام الإيراني إقامة حكم في بغداد يجعل بلاد الرافدين جزءاً من محور الممانعة
هذا من زاوية عامة. أما من حيث المصالح الإيرانية الضيقة، فلعل الهدف الأول للسياسة الإيرانية في العراق هو ضمان عدم قيام نظام معادٍ، على ما كانت عليه الحال أيام صدام حسين. يليه من حيث الأهمية ضمان ألا تنتهج بغداد سياسة خارجية تتعارض مع النهج الإيراني. لعل الوسيلة الفضلى لتحقيق هذين الهدفين تعزيز وضع الشيعة في هذا البلد (يفسر عدم استبعاد المالكي، الشخصية الشيعية الأقوى على الساحة حالياً)، بما يمكن الإيرانيين من ضمان السيطرة على السلطة ومفاصلها فيه. واقع يجعل طهران الأكثر حرصاً على وحدة بلاد الرافدين، على قاعدة أن الأفضل لها أن يجاورها عراق موحد تتحكم هي بسلطته المركزية (إبراهيم الجعفري مرشحها المفضل)، بدلاً من دويلات عراقية ثلاث تتعدد فيها مراكز القرار بما يجعل الأمور أكثر تعقيداً بالنسبة إليها لما يوفره من أرضية لتدخلات خارجية عبر دعم هذه الدويلة أو تلك. وهناك أخيراً ضمان خروج الاحتلال بتوقيت محدد، أي يوم تكون طهران قد راكمت من القدرة داخل العراق ما يمكنها من تعبئة الفراغ الأمني الذي سيسبّبه الانسحاب، وضمان الإمساك بجميع خيوط اللعبة. بناءً عليه، تبدو العلاقات التجارية العراقية الإيرانية التي تجاوزت عام 2010 الـ7 مليارات دولار، في آخر لائحة اهتمامات طهران مع بغداد.
أما سوريا، فتبدو مطمئنة للإدارة الإيرانية للملف العراقي من زاوية استراتيجية. لم تعد تخشى الفدرلة، مع ما تحمله من بذور تقسيمية، مرفوضة سورياً (خشية امتدادها إلى الداخل السوري) وتركياً وإيرانياً. ولم تعد تخشى انتقال عدوى الاقتتال الأهلي إلى ربوعها، بعدما ثبت أن العرقنة أدت إلى تعزيز تماسك المجتمع السوري والتفافه حول قيادته (أدّت الأحداث اللبنانية بين 2004 و2008 دوراً أساسياً في تعزيز هذا التوجه). وهي أيضاً لم تعد تخشى الانتشار العسكري الأميركي في العراق، بعدما ثبت لها بما يدعو للشك أن المشروع الأميركي في المنطقة في تراجع، بل إن الأميركي ذهب ليفاوضها ويطلب مساعدتها على ضمان أمن قواته التي يستعجل سحبها من بلاد الرافدين.
لذلك، تطفو على السطح الاهتمامات التكتيكية السورية بهذا الملف، على المستويين الاقتصادي والسياسي. على المستوى الأول، يبدو الاهتمام الرئيسي لدمشق منصباً على إعادة تشغيل خط أنابيب النفط بانياس ـــــ كركوك، لما يوفره من مداخيل مالية بالعملة الصعبة للخزينة السورية (من هنا يمكن فهم لماذا تعمد وفود حزب «الدعوة» إلى إثارة هذا الموضوع كلما زارت دمشق من أجل الترويج لنوري المالكي). هناك أيضاً ضمان تنفيذ وتفعيل اتفاقيات التبادل التجاري الحر بين البلدين (800 مليون دولار في 2009)، وتعزيز التعاون بين المنطقة الحرة السورية في اليعربية والمنطقة الحرة العراقية في القائم. أما على المستوى السياسي، فتريد دمشق، على ما يبدو، حصة من الكعكة السياسية العراقية، بمعنى أن تتولى شخصيات مقربة منها بعض المناصب الرئيسة في بغداد بما يضمن أن تكون لها كلمة في القرار السياسي العراقي (وهذا ما يفسر تزكية سوريا لإياد علاوي وعادل عبد المهدي اللذين تربطهما علاقات قوية بالمسؤولين السوريين من أيام ما كانا في حزب البعث).
إهتمامات تكتيكية سورية على المستويين الاقتصادي والسياسي
وهناك أيضاً تركيا، التي يحتل الملف الكردي صدارة اهتماماتها العراقية، إن لناحية خلايا حزب العمال الكردستاني المنتشرة في جبال قنديل، والتي تحصل على الدعم اللوجستي من حاضنته الشعبية في الشمال العراقي. أو لناحية كركوك، من حيث ضمان أمن الأقلية التركمانية فيها، ومن حيث ضمان ألا تسقط بيد الأكراد خشية أن تتحول ذات يوم بنفطها إلى مصدر دخل للدولة الكردية العتيدة، التي تُعدّ خطاً أحمر بالنسبة إلى أنقرة التي ترى أن وحدة الأراضي العراقية هدف استراتيجي. كذلك الأمر بالنسبة إلى الملف النفطي، خط نفط جيهان كركوك أو غيره، الذي يوفّر لتركيا موارد دخل إضافية. أو بالنسبة إلى التبادل التجاري، الذي تجاوز تسعة مليارات دولار في 2010 (كان 3.5 مليارات في 2007). وترى أنقرة أيضاً في العراق بوابة إلى التدخل في قضايا المنطقة، تطبيقاً لسياسة التحول إلى الشرق التي اعتمدتها، يضاف إليها سياسة «صفر مشاكل». لذلك تجد أجهزة الاستخبارات التركية فاعلة في العراق، من شماله إلى جنوبه، ومعها الدبلوماسيون الأتراك الذين أخذوا على عاتقهم ترتيب البيت السني العراقي بالتعاون مع السعودية وسوريا، قبل أن تُكلف الأخيرة بهذا الملف. وهذا ما يفسر التبنّي التركي لإياد علاوي منذ البداية، ويفسر في الوقت نفسه عدم ممانعة أنقرة لأي من المرشحين الآخرين، تحت عنوان أنها على مسافة واحدة من الجميع. لكن لا بد من أن تكون أنقرة ضد عادل عبد المهدي، إذا ما صحت الاتهامات بأنه وعد الأكراد خطياً بتطبيق المادة 140 المثيرة للجدل في الدستور العراقي.
في المقابل، هناك السعودية، التي كانت أول المتحمسين لغزو العراق (بندر بن سلطان نموذجاً). لكنها سرعان ما وجدت أنه بات محمية إيرانية على حدودها. لعل في كلام ملك الأردن عبد الله الثاني عن الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى غزة ما قضّ مضجعها. صحيح أن مخاوفها من قيام دولة شيعية على حدودها الشمالية لا بد أن تكون قد زالت، لسبب بسيط هو أن دولة كهذه في جنوب العراق تحرج إيران أكثر مما تفيدها، فضلاً عن أنها تحرمها من منافع جمة تحصل عليها حالياً. لكن حالة التهميش التي وجد سنّة العراق أنفسهم فيها بسبب انكفائهم على أنفسهم بعد الغزو، ومن ثم مقاطعتهم العملية السياسية وانتخابات 2005، لا بد أن تحرم الرياض من عنصر قوة داخل هذا البلد.
الموقف من الواقع السني هذا يمثّل عامل تقاطع مع الأميركيين الذين اكتشفوا في عهد زلماي خليل زادة يوم كان سفيراً في بغداد، أنه مسيء للمصالح الأميركية في العراق. حجته في ذلك كانت أن هؤلاء السنة، الذين تمثّل السعودية مرجعهم الروحي والمالي، هم الحليف الطبيعي للأميركيين في العراق لا الشيعة الذين ثبت لواشنطن أن مرجعهم الأول والأخير يبقى إيران، مهما تعمّقت علاقة العم سام بهم. من هنا يمكن فهم التنسيق السعودي مع تركيا، الدولة السنية الكبرى التي تنافس السعودية ومصر على زعامة المنطقة، في ترتيب البيت السني العراقي. ومن هنا أيضاً يمكن فهم الدعم السعودي التركي لإياد علاوي لرئاسة الوزراء، الذي تباركه أميركا التي ترى بدورها في أبو حمزة حصانها الرئيس في اللعبة العراقية.
وفي السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الفيتو الإيراني الموضوع على علاوي يعود في الأساس إلى العلاقات السعودية لهذا الأخير لا الأميركية، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطلاع، تحت عنوان أن جميع المرشحين الآخرين تربطهم علاقات بواشنطن، وإن كانت بطبيعة ومستويات مختلفة.
بناءً على ما تقدم، يمكن فهم خلفيات التقارب السوري الإيراني التركي في الملف العراقي. تقارب لا يعود إلى سياسة المحاور التي تعصف بالمنطقة فقط. بل هناك لائحة من المصالح المرتبطة بالساحة العراقية تجعل الدول الثلاث محكومة بالتوافق عراقياً، وإن حصل تباين في لحظة تاريخية ما يعود إلى مسببات ظرفية، من مثل رغبة سورية في الدفع قدماً بالمصالحة مع السعودية أو في تسليف إدارة أوباما، أو حتى رغبة تركية في مغازلة السعودية أو إيجاد موطئ قدم في صفوف سنّة العراق.