المرجعية تترك للساسة تحمّل مسؤولياتهم... لكنها لا «تتخلى عن الناس» إيلي شلهوب
زوّار النجف كثر. ملايين من الجنسين من مختلف الأعمار والجنسيات. يأتونها لزيارة الأماكن المقدسة، يتقدمها مقام الإمام، والحوزة حيث «المراجع العظام». في النهاية، هي ليست كغيرها من المدن. فيها بدأت الدنيا وفيها تنتهي، على ما يعتقد أهلها: أليست المدينة التي تؤوي قبر النبي آدم، والتي ستكون عاصمة الإمام المهدي؟
لكنّ زيارات النجف هذه الأيام تحمل رونقاً خاصاً. تعبق برائحة الأزمة الحكومية المستعصية. حتى الزوار، وجلّهم من علية القوم، يحجّون إلى منزل واحد. هناك، حيث يقطن المرجع علي السيستاني، الذي لم ينبس حتى هذه اللحظة ببنت شفة، مع تأكيد وقوفه على مسافة واحدة من الجميع. أوساط مطّلعة على أجواء المرجعية تؤكد أن «وضعها حساس. لا تتحدث. قدرها أن تعمل كثيراً وتتكلم قليلاً. لكنها مع ذلك تتابع تفاصيل التفاصيل المتعلقة بالمسائل العراقية. لا تتدخل فيها. تعتقد أن على المسؤولين في الدولة، رؤساءً ونواباً ووزراء، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم الوطنية».
وتضيف الأوساط نفسها، المعروفة بأنها على دراية بطريقة تفكير السيد السيستاني، «عند المحطات الحساسة والمفارق الخطيرة، تتحمل المرجعية مسؤوليتها وتتصدى للأزمات»، مشيرة على سبيل المثال إلى أن المرجعية تدخلت لحسم معارك النجف بين جيش المهدي بقيادة السيد مقتدى الصدر وقوات الاحتلال الأميركي، كما أن «العملية السياسية برمّتها ومبدأ الانتخاب هما فكرة السيستاني». وهي

المرجعية وضعها حساس. لا تتحدث. قدرها أن تعمل كثيراً وتتكلم قليلاً
تدخلت أيضاً عندما اصطدمت أطراف الائتلاف العراقي الموحد باسم مرشحها لرئاسة الحكومة في عام 2005. وقتها، توضح هذه الأوساط، كان هناك مرشحان: عادل عبد المهدي مدعوماً من الولايات المتحدة، وإبراهيم الجعفري مدعوماً من إيران، يضاف إليهما حزب الدعوة «الذي كان يشعر أنه يتعرض لمؤامرة». وتضيف «لما اقتنعت المرجعية بأن الأمور بلغت حداً عصياً على الحل، تدخل مكتب السيد السيستاني وعرض تسوية تقوم على أن يسمّي الجعفري مرشحاً من حزب الدعوة يكون مرشحاً توافقياً. بذلك، تكون قد حلّت عقدة حزب الدعوة والمؤامرة المتخيّلة، وفي الوقت نفسه تكون المشكلة قد انتهت من دون حساسية، لا أميركية ولا إيرانية، على قاعدة أنه لم يتنازل أحد للآخر. وهكذا، كان أن جيء بنوري المالكي».
أما حالياً، فتؤكد هذه الأوساط أن المرجعية ترى بوضوح وجود أزمة تتفاقم حدّتها يوماً بعد يوم. وتضيف «هي أزمة متعددة الأبعاد. هناك مشكلة داخل ما يسمّى التحالف الوطني بشأن تسمية مرشح لرئاسة الوزراء. دولة القانون متمسّك بنوري المالكي والمجلس الأعلى بعادل عبد المهدي والتيار الصدري بإبراهيم الجعفري. وهناك موضوع تعريف الكتلة الأكبر، هل هي التي نجحت في الانتخابات أم التي شاركت في أول جلسة للبرلمان؟». وتوضح أن «المرجعية لم تتدخل بعد لحسم الأمر. لا تزال الأمور تجري ضمن المهلة الدستورية، وعلى القوى السياسية أن تتصدى لهذا الأمر. المرجعية تأمل الأفضل دائماً. لكن إذا استمرت الأزمة، فإن المرجعية لا تتخلى عن الناس».
وتشدد هذه الأوساط، التي ترفض رفضاً مطلقاً حتى محاولة تقدير رأي السيستاني بالمرشحين الأربعة لرئاسة الحكومة، على أن «المرجعية على مسافة واحدة من الجميع. لا تدعم أحداً ولا تضع فيتو على أحد»، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن «المرجعية تعتمد معايير محددة في مقاربتها للأمور، تتلخص في مدى الاستجابة لمشاكل الناس وهمومهم والتعبير عن معاناتهم، وفي الرفض المطلق للفساد وللمفسدين».
مصادر على اطّلاع على ما يجري في النجف ودوائرها الضيقة، وفي تحليلها لحديث الأوساط السالفة الذكر، ترى أن تطبيق المعيار الأول يعني إطاحة المالكي «الذي أثبتت تجربته وجود قصور كبير في ملامسة مشاكل الناس. أزمة الكهرباء الحالية التي تفجّرت تظاهرات في البصرة أكبر دليل. كذلك الأمر بالنسبة إلى فضيحة رواتب النواب التي زيدت في أكثر من مناسبة». تضيف «لقد أبلغ (السيستاني) الجميع استياءه من ذلك. قال لهم بوضوح: هذا أمر خطأ، يُبعدكم عن الناس. تألّم أيضاً لموضوع المنطقة الخضراء وبيع العقارات فيها. ويُروى أنه أبلغ المالكي ذات مرة أنه قد يكون بحاجة إلى صولة فرسان ضد الفساد والمفسدين»، على غرار صولة الفرسان التي شنّها على الصدريين في البصرة.

المعايير تتلخص في مدى الاستجابة لمشاكل الناس وهمومهم والتعبير عن معاناتهم

أما تطبيق المعيار الثاني، بحسب تحليل المصادر نفسها، فيطيح أيضاً علّاوي، «الذي لم يخل عهده من فساد. والدليل فضيحة المليار ومئتي مليون دولار الخاصة بوزارة الدفاع، كذلك الأمر بالنسبة إلى فضيحة السامرائي»، في إشارة إلى وزير الكهرباء في حكومة علّاوي، أيهم السامرائي، الذي اعتقل قبل أن يهرب من السجن ومن العراق كله بمساعدة أميركية، وهو الذي كان متهماً بقضايا فساد.
بالنسبة إلى عبد المهدي، تقول هذه المصادر إن التحليل قاصر عن تقويمه «لكونه لم يُجرّب في الحكم»، فيما تضع علامات استفهام عمّا إذا كان الجعفري مرشحاً جدياً بالنسبة إلى التيار الصدري.
ورداً على تساؤل عن حقيقة أن «المجلس الأعلى» هو التيار السياسي الأكثر قرباً من السيستاني، تؤكد الأوساط القريبة من أجواء المرجعية أن ذلك يعود إلى «كون المجلس يسعى إلى التقرّب من المرجعية أكثر من غيره من التيارات السياسية الشيعية». وتوضح أن «الحال أشبه بوالد لديه خمسة أبناء. كلّهم بالنسبة إليه سواسية، يهبهم المقدار نفسه من الحب والرعاية والاهتمام، لكن أحد هؤلاء الأولاد يتقرّب أكثر من غيره إلى الوالد الذي يبقى دائماً فاتحاً ذراعيه للجميع»، وبينهم الأطراف التي تنتمي إلى الطوائف الأخرى.


علّاوي: إنها مرحلة التنازلات (يو بي آي، أ ف ب)