في جعبة الكبار كلام كثير عن ذكرى النكبة. لكن للأطفال كلامهم أيضاً. لم يروا فلسطين ولم يلعبوا في أزقتها. لكنهم مولعون بها. إجاباتهم عن النكبة وحق العودة لا يشبه بعضها بعضاً. فيها تفاصيل مختلفة، لكن هدفهم واحد: «بدنا نرجع عفلسطين»
محمد محسن
الطفل الفلسطيني مسيّس. لكنّه لا يشبه السياسيين إطلاقاً. فلسطينه واحدة لا تعرف الانقسام، ولم تسمع إلا بعصابات صهيونيّة طردت أجداده في عام 1948. حين تسأله عن النكبة، القرار 194، وحق العودة، يفاجئك بإجابات أهم ما فيها، وأكثرها إيلاماً في الوقت نفسه، أنها تبتعد عن بديهيات الطفولة. يزيد على أسئلتك أموراً لا تتوقع أن طفلاً يتابعها بدقّة: هدم المسجد الأقصى، بناء كنيس الخراب، وحصار غزّة المستمر. لكن، بعد أن يجيبك، يعود إلى بديهيات حياته كطفل. حياة في زواريب ضيقة كشرايين قلب مريض. يركل كرة صغيرة، أو يتصارع مع قرطاس البوظة كي لا يذوب قبل أن يأكل ما فيه.
السائل عن تاريخ النكبة، وماذا يعرف أطفال المخيمات عنها، يشبه شخصاً يمشي في حقل ألغام. فعن أي نكبة ستحدّثك نبيلة ابنة الأعوام العشرة؟ عن نكبة 48 حيث تهجّر أجدادها؟ أم عن نكبتها في عام 2007 وقد نزحت من مخيم نهر البارد إلى مخيم برج البراجنة؟ في عام 2007 تقمّصت تجربة جدّتها عام 48. شابت تجاربها باكراً.
بالنسبة لنبيلة، الحديث عن النكبة أمر طبيعي. يسيطر الحزن على وجهها الأسمر، لكن مرارة البعد عن بيتها «الأصلي» في البارد، لا تمنعها من الفرح. تترك الحديث معنا فجأة، وتتوجه لإكمال «بروفة» الزفّة الفلسطينية مع رفيقاتها. للفرح حصّته في حياة أطفال المخيّمات. محمود درويش هو أحد الأطفال الفرحين. يعلم أن اسمه هو تيمّناً بشخصية فلسطينية مهمّة. هل تعرفها يا محمود؟ طبعاً يعرفه. يجيب مبتسماً «إي، على إسم الكاتب المشهور». لكن محمود الصغير لم يحفظ شيئاً من قصائد محمود الكبير بعد، والسبب؟ «لساتني صغير عمري 7 سنين بس». بهدوء، تشرح دعاء قبلاوي معلوماتها عن النكبة. تؤكّد أنّه منذ «62 سنة انهدّت القدس، والفلسطينيين انزعبوا من بلادن. اليهوديين احتلوا أرضنا». أما مصادر قصتها فـ«أهلي وبيت جدي» تقول. على أحد مقاعد ملعب مدرسة البيرة في مخيم برج البراجنة، يبكي كامل بصوت مرتفع لأن زميله مازحه بضربة على وجهه. ضربة يبررها حسن بالمزاح. تسأله عن تاريخ النكبة فيظل مصرّاً على ربط كل شيء بالمزاح «ما بعرف إيمتا صارت، بس اليهود ما كانوش بيمزحو معانا وقت طردونا من فلسطين».
لو كانوا فتح وحماس إيد وحدة ما كنّاش حررنا فلسطين؟
النكبة تكبرها بـ52 عاماً. في 15 أيار، ولدت الطفلة مريم محمد. أخبرها أهلها أنه اليوم ذاته الذي نكبت فيه فلسطين. لكن مريم تؤكّد أنها ستعود إلى وطنها «لن ننتظر 62 عاماً إضافية للعودة إلى عكا». مريم، ابنة الأعوام العشرة، ليست الوحيدة التي تعيش على أمل العودة. أطفال كثيرون باحوا بآمال مشابهة تربّوا عليها في بيوت الصفيح. ربما، هي فسحة الأمل الوحيدة أمامهم. تمنّي العودة على مرارته، يبقى أسهل من توقع البقاء في حياة صعبة كالتي يقاسيها أهل المخيمات. يقطع أحمد خضر حديثه مع رفاقه عن مباريات كأس العالم المقبل، ليجيبنا عن أسئلتنا فـ«فلسطين أهم من البرازيل» كما يقول. يكره ابن قرية البصّة جميع أشكال الاحتلال والتهجير. لم تحضر قصة النكبة بسرعة إلى ذاكرته. ما يعرفه فقط هو أن «اليهود احتلوا فلسطين». لم يزر قريته يوماً، لكنّه متأكد: «الطقس بفلسطين صار بشع بسبب الاحتلال والقذائف». الاحتلال أبشع شيء لم يره بالعين المجردة، بقدر ما رأى أوجاعه في كلام جدّه «خصوصي بس يحكيلنا عن الضيعة وقديش كانت حلوة قبل ما ياخدوها اليهود». يشدّ على رأسه علماً فلسطينياً صغيراً، فهو سيقدم مع رفاقه وصلة مسرحية، على نشيد «يا قدس إنا قادمون». أما متى نحن قادمون؟ فلا جواب محدّد عند أحمد. لكنّه يستدرك «قادمون يعني راجعين عفلسطين، نحررها ونطرد الإسرائيلي منها». منذ أن صار لديان 10 أعوام بدأ والدها بإخبارها تفاصيل النكبة. «الله لا يوفقهن اليهود. سرقولنا البيت بحيفا، والعرب كانوا نايمين» تقول. يخالفها محمود خليل وجهة نظرها. يستوي على حافة في أحد شوارع مخيم صبرا، وبلغة الواثق يشرح معلوماته «العرب ما كانوش نايمين. ضحكوا علينا وقالولنا بترجعو بعد يومين أو تلاتة بالكثير». الحياة الفلسطينية مليئة بالأرقام، لا بل بالقرارات الدولية «الغائبة عن السمع». لا فارق عند فادي أبو شاكر في أن يكون القرار 194 هو قرار «احتلال فلسطين» كما قال، أو أن يكون القرار مرتبطاً بحق العودة. النتيجة واحدة. يصوغها ببلاغة «بعدو القرار بينزل؟ لسّا ما رجعناش طيّب». هكذا، يبدو حق العودة بالنسبة لأطفال المخيمات، حلماً بتجربة شيء جديد. في أذهانهم، فلسطين هي الجنّة. ترد مريم غالي، من مدينة الكابرة، سبب النكبة إلى غياب السلاح القوي عند العرب. الحديث عن الماضي ليس مجدياً، فلمريم الصغيرة نظرية غير جديدة، استفاق عليها الفلسطينيون قبل غيرهم من العرب «إحنا سلاحنا هو علمنا» تقول مريم. فتاة بعينين خضراوين، فتى أحلامها اسمه حسام. صوره منشورة في مخيم برج البراجنة، تحتفظ مريم لنفسها بواحدة منها «راح عفلسطين ليشوف أهلو فقتله اليهود». تجزم وفاء معروف بقرب العودة إلى فلسطين، أو على الأقل بتحقيق هذا الأمر. لأجل ذلك، ستكون «مجاهدة بحمل سلاح وبحرر فلسطين». تعدد ألعابها في بيتها «علم فلسطيني صغير، وجنود كتار بيشبهو الإسرائيلي بتدرب عليهن». تعود مريم الملتزمة دينياً لتمسك بأطراف الحديث. تحدد عدوّها: ليس إسرائيل فبني إسرائيل في القرآن هم قوم النبي يعقوب، بل «قولوا الصهاينة أو اليهود. ما تكتبوا إسرائيل وتدعسوها».
لأسامة طريق وحيد يحقق العودة إلى صفد. المقاومة. كانت هذه آخر إجاباته، بعدما عدد الشخصيات التي يحبها «أبو عمار، أحمد ياسين، الرنتيسي، السيد حسن على راسي بحبو كتير». لا أبطال رسوم متحركة في مخيلة أحمد «ما بحبن، بحب المقاومين وبدي صير متلن». يتحدث عن الانقسام الفلسطيني بلغة الرفض المطلق «والله عيب. لو كانوا فتح وحماس إيد وحدة ما كنّاش حررنا فلسطين؟». يشاطره سامي أبو الهيجا رأيه. يخلع محفظته المدرسية، ويستوي على الكرسي، فالموضوع مهم للغاية. يفصّل نتائج الانقسام الفلسطيني: اليهود يحتلون المسجد الأقصى، يبنون كنيس الخراب، أما الفلسطينيون فيقتل بعضهم بعضاً! يغيظه طرح السؤال عن مصدر أفكاره. يصمت ثم يقول «عندي عقل وبعرف كتير عن فلسطين. كل يوم بسمع الجزيرة». وفيما تحوّلت الجزيرة إلى مصدر معلومات لأحمد، تحوّلت شاشة الحاسوب إلى مكان يفرغ فيه محمود أبو خليل شغفه بقتال إسرائيل. في لعبة «الكاونتر سترايك» ينقسم أولاد المخيمات قسمين. نترك لمحمود شرح التفاصيل: «مننقسم فريقين، اللي جوا هني الفلسطينيي واللي برا هني الإسرائيليي. اللي بيختارو فريق برّا لأنو سلاحو أقوى بكتير». الحديث مع أطفال المخيمات لا ينتهي. الفقر من أمامهم والنكبة من ورائهم. مجرد الحديث عن العودة يجعلهم يبتسمون. تنتظر منال العودة إلى يافا «سمّوها الكذابين تل أبيب (بالحقيقة تل أبيب هي ضاحية يافاوية لكنها كبرت لتبتلع ما حولها). فيها ليمون وحلوة كتير هيك خبرتني أمي» تقول. تصعد على خشبة مسرح مدرستها، وتدهس اليأس «كل يوم بيمر وإحنا منكوبين بيقربنا أكتر من العودة. نحنا راجعين عفلسطين إن شاء الله».


في ذكرى النكبة، نظّمت مدارس «الأونروا» المنتشرة في المخيّمات الفلسطينيّة، يوماً فلسطينياً مفتوحاً، قدّم فيه التلاميذ لوحات راقصة ومقاطع تمثيليّة. هكذا، احتلّ الرقص التراثي والأعراس الفلسطينيّة خشبات المسرح، فيما تناولت المقاطع أحاديث بين الأجداد والأبناء عن النكبة، وضرورة المقاومة من أجل العودة إلى فلسطين. وبين الفينة والأخرى، كانت حبوب الأرز تنهمرغزيرةً من البيوت الملاصقة للمدارس في المخيّمات.