إيمان بشيرتحليلات ساذجة وأحلام وردية قد تخطر بالبال لحظات اليأس المُدقع: ربما لو قطع الخليج البترول عن إسرائيل وأميركا، وسقطت معاهدات السلام بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وفُتحت خمس جبهات عربية للحرب من أجل التحرير: جبهة من الداخل، جبهة من لبنان، جبهة من سوريا، جبهة من الأردن وجبهة من مصر، فإننا سنحرر فلسطين خلال عشرة أيام أو ربما أقل! لكن سرعان ما تتلاشى التحليلات والأحلام أمام قمع حرية التفكير بالموضوع حتى، أمام تخاذل نسبة لا يُستهان بها من الرأي العام العربي تجاه القضية الفلسطينية، أمام ذلك الصبي الذي سألته يوماً أين تقع قريته (عين الأسد)، فسكت طويلاً بحيرة قبل أن يجيبني «قضاء يافا»! لا أتوقع من صبي يبلغ الثانية عشرة من العمر أن يناقشني باتفاقية أوسلو أو جنيف، ولا أن يحمل السلاح ويحارب على الجبهات مع المقاتلين، لكنني أتوقع منه على الأقل أن يعرف أين تقع قريته. «الجهل بالقضية الفلسطينية أصبح أشبه بانتشار فيروس «أتش ون أن ون» بين تلامذة الصفوف الابتدائية والمتوسطة في مدارس الأونروا»، تقول صديقتي التي تخرجت من جامعة بيروت العربية لتجد نفسها مُدرسة للتاريخ والجغرافيا في إحدى مدارس الأونروا في بيروت، «بعد مرور 62 سنة على نكبة فلسطين، أصبحت ملامح الخريطة الطبيعية للوطن تتلاشى من عقول جيل بأكمله»، تقول المُدرّسة الصبية وكلماتها تتلاشى في ضجيج رأي عام عربي يتعالى هتافه أمام شاشة التلفزيون وهو يتابع أخبار الرياضة العالمية.
أصبحت النكبة لا تُذكر إلا في ذكراها، تماماً كألبومات صور (ستي أُم ناصر) التي لا تزال تتردد منذ أربعة عشر عاماً كلما وقع ألبوم الصور العائلي بين يدها أثناء (التعزيلة السنوية للدار) ما إذا كانت سترمي الصور بالقمامة أم تحتفظ بها، حتى أذكّرها بالقول «ستي يا حبيبتي، ما هيّ الفكرة من الصور إنو تصير قديمة وتظلّ تذكرك بالماضي!»، لترمقني هي بنظرة مترددة طويلة، من بعدها تعيد ألبوم الصور إلى مكانه بانتظار (تعزيلة السنة الجاي). كالمسرحية التراجيدية الطويلة، يقف فيها الفلسطينيون على خشبة مسرح الحياة بانتظار العودة، تماماً (بانتظار عودة غودو) الذي ظلّ أبطالها واقفين تحت ظل الشجرة بانتظار المخلّص، يناقشون احتمال عودته، من المقطع الأول إلى المقطع ما قبل الأخير في المسرحية (صفحة 7)، إلى حين مات الأبطال تحت ظل الشجرة وهم منتظرون. نحن، في الصفحة 62، لا نزال أحياءً ننتظر، تحت شجرات متفرقة، يعن لبعضها، أحياناً، ألا تظللنا حتى. مشرذمين، ندافع حيناً، نقاوم حيناً، ونمارس دبلوماسيتنا البسيطة حيناً آخر، وفي البال جملة من أغنية فيروز: سنرجع يوماً،.. أليس كذلك؟