62 سنة هو عمر «لبنان»، عمره من عمر النّكبة. ظن أهله أنه ولد خلال «مشوار» خارج فلسطين، في «محطة» حمّلوه اسمها. صدّقوا أنها «جمعة زمان ومنرجع لبيوتنا». لم يعرفوا أنهم طُردوا من بيوتهم، وأن الأسبوع الذي يفصلهم عن «العودة» سيتحوّل عمراً
ضبية ـ أليسار كرم
يجلس لبنان، الفلسطيني الذي لم يعرف يوماً فلسطين، مسترخياً في منزله المتواضع في مخيم الضبية. يضحك كثيراً ويسخر من كل شيء. يقفز من موضوع لآخر كأن تداخُل هموم اليوم وذكريات السنوات الـ62 تفقده تركيزه. يروي كيف خرجت أمه الحامل به من دون أن توضب أغراضها برفقة زوجها بعدما سمعا مكبرات الصوت تدعو السكان لإخلاء البيوت وتعدهم بالعودة بعد أسبوع واحد فقط. يقول «قرّر أهلي أن يسمياني لبنان لأنني ولدت هنا، بعد أسبوع من مغادرتهما. قالا إن الاسم سيذكرهما بلبنان بعد أن نعود إلى دارنا في فلسطين ومرّت السنوات ومات أهلي ولم نعد». يتنهّد ويضحك «شو نساوي؟ حكمة ألله؟ بل حكمة العرب». يخبر بلهجته الفلسطينية المطعمة بلبنانية أن مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل علم بأن فلسطينيَين أطلقا على مولودهما الجديد اسم «لبنان» فقدّم لهما 20 ليرة «والليرة كانت تحكي يومها». ينفي أن يكون أهله قد نسوا أملهم بالعودة، فهم لم يتعبوا من الشوق ومن حكايات «الأرض المقدسة» غير أن لبنان لم يعد يتأثر. «دمي فلسطيني لكن أشعر بأني لبناني ولو كنت لا أتمتع بالحقوق المدنية. لو كان بإمكاني العودة اليوم إلى فلسطين فلن أفعل» يردف وهو ينظر إلى ابنه عيسى. لا يتردد الشّاب بالتأكيد أنه لا يشعر بالانتماء لفلسطين «لا أثر للهوية الفلسطينية في حياتي إلا من خلال بطاقة اللجوء». يبدي إعجابه بالصامدين في ظل الاحتلال الإسرائيلي «بس شو طالع بإيدنا». لم يفكر يوماً بمغادرة لبنان ولا يعنيه «حق العودة». يوافقه أبوه «هون أريح».
يقاطعه صوت «أم رياض» تنادي. بدت قريبة كأنها تصرخ من شرفة منزله، فبيتها المتواضع الذي يعج بالأغراض القديمة والذكريات على رمية حجر. بلا نواح، بلا خطابة، تتذكر رحلة التهجير ومحطات الألم. بعزة نفس تقدّم خبرة حياتها كأنها تردّ بها على اليأس وتقاومه. «أنا من قرية الرّانة قرب الناصرة وزوجي من بيسان. حملت طفلي وتركت بيتي صبيحة ذلك اليوم عندما وصل «أبو رياض» مستعجلاً وقال «بِدنا نروَّح».
لم تجادله ابنة الـ21 سنة يومذاك لأنها فهمت. كانت أخبار المجازر تصلها من الجيران والراديو ورائحة الموت اقتربت من بيت لم يعد آمناً. «خفت على ابني يوم وصل أبو رياض إلى البيت ملطخاً بالدم. كان اليهود والإنكليز قد أوقفوا الرجال وأجبروهم على الترجل من سياراتهم من دون سبب وأمطروهم بالرصاص». تقطب حاجبيها وتشيح بنظرها إلى البعيد «أي حق وأي عودة؟ ع إيش أرجع؟ بيتي في بيسان كان بالإيجار وبيت أهلي دمره اليهود وبيت حماي ضاع بعدما غادروا إلى الأردن». تسرد بلهجة أهل الناصرة رحلة القلق قبل الاستقرار في مخيم الضبية للاجئين «أقلتنا سيارة إلى عين إبل حيث عشنا 15 يوماً في «سندرة» (قبو). أصررت على أن نذهب إلى صور لكننا بتنا ليلتنا في صالة سينما وانتظرنا أن يأتي أحد معارفنا ليقلّنا إلى الشام. رمونا في حلب حيث عشنا سنة و3 أشهر. رحت أفكر بأقاربي الذين في الأردن وأهلي في صربا (كسروان) وأنهكني الشعور بالغربة. فحملت الحقائب التي لم أفرّغها يوماً وأتيت مع زوجي إلى صربا حيث اكتشفنا أن أهلي غادروا إلى جهة مجهولة. لجأنا إلى مخيم فرن الشباك ثم انتقلنا إلى ضبية حيث كانت الأونروا تنشئ هذا المخيم على أرض للرهبنة المارونية فانتظرنا سنتين في «بركسات» للجيش اللبناني قبل أن ننتقل إلى هنا عام 1954».
لم تعجز أم رياض عن بناء جسر اللحم والدم بين من لجأ ومن صمد. «ذهبتُ مع أولادي إلى فلسطين منذ أكثر من 15 سنة. عرّفتهم على الأقارب في الناصرة وحيفا وطبرية لأننا نملك جوازات سفر أردنية. هم يعيشون اليوم في الأردن وقد احتلوا مناصب رفيعة. أبو رياض وإخوتي ماتوا ولم يبق لي من العمر أكثر من الذي مضى، المقبرة هنا أقرب لي من فلسطين».


مخيم مختلف

معلوم أن مخيم الضبية يكسر الصورة النمطية السائدة عن المخيمات. يمتد على تلّة فاصلة بين الضبية وذوق الخراب ويضم لبنانيين وفلسطينيين ولبنانيين من أصل فلسطيني. هؤلاء جُنّسوا بغالبيتهم في الخمسينيات على عهد الرئيس كميل شمعون. اعتادوا العيش معاً دون ترداد الشعارات المنادية بحق العودة كأن تجنيسهم أعتقهم من «الهمّ» الفلسطيني. على شرفات منازلهم أعلام البلدان المشاركة بالـ«مونديال» وعلى جدرانها شعارات حزبية لبنانية. تغيب فلسطين عن هذا «المخيم الفلسطيني مع وقف التنفيذ».