سؤال التغيير في مصر، إجابته غامضة، رهن مؤسسات الوصاية. وأخيراً نقل الرئيس حسني مبارك الوصاية الى مؤسسة عليا. نقلها إلى العناية الإلهية. وهذا ما يجعل التغيير رهن «ميتافيزيقا سياسية»، تحاصر المصريين باليأس

وائل عبد الفتاح

رئيس بتميمة «المشيئة»



سيدخل الرئيس حسني مبارك التاريخ. إن لم يكن ذلك على أشياء كثيرة فعلها، فسيكون عن مقولته الأخيرة في روما. سأله صحافي ألماني، في مؤتمر صحافي مع سيلفيو برلوسكوني عن نيته الترشح للرئاسة. أجاب مبارك مبتسماً: «الله وحده الذي يعلم».
الإجابة لم تكشف للألماني الجانب الذي يبدو فيه الرئيس مواطناً عادياً، يضع كل أموره على الله، وهو جانب أساسي عند مبارك الذي يبدو أنه «رجل عادي» يحاول ملء الفراغ الكبير الذي دُفع إليه دفعاً.
الرجل العادي يستخدم الحيلة ليلتصق في موقعه، مهما كان الموقع صغيراً أو كبيراً. الحيلة هي أساس الوجود. ودعامة الذات في مواجهة العالم. هنا يبدو الله قوة عليا، حاسمة في معركة الوجود، علامة اطمئنان، أو تقوية في مواجهة العصيّ على المواجهة أو الفهم.
الله بالنسبة إلى الرجل العادي ليس ورقة في لعبة السياسة، لكن مبارك بدا في الإجابات التالية أكثر قليلاً من رجل عادي.
الصحافي أعاد السؤال عليه بطريقة أخرى: «من تفضّل لخلافتك؟»
مبارك كانت إجابته مذهلة: «من يعلم... من يعلم... الله وحده يعلم من يكون خليفتي». مبارك نظر إلى السماء وهو يكمل الإجابة: «أفضّل من يفضّله الله».
هذا أول حوار مباشر عن طريقة تفكير الرئيس مبارك في عملية انتقال السلطة. الرئيس يفكر في التغيير بمنطق «الاختيار الإلهي».
ورغم أنه من الناحية العلمية والسياسية، الله لا يختار الرؤساء. إلا أن ما يقوله الرئيس مبارك يعني أمراً من ثلاثة، كلها تدور في محاولة تكثيف الغيب ليصبح بخاراً في قاطرته السياسية.
الأول أن الرئيس مؤمن بأن الرئاسة قدر لا يملك أن يغيّره إلا الله. والثاني أنه اقترب من الفكرة التي يؤمن بها المغرمون بالدولة الدينية، الذين يرون الحاكم وكيل الله، أو أن الله هو الذي يختار الحاكم، فمن يغيّر إرادة الله؟ والثالث أن الرئيس مبارك وصل بعد ٣٠ سنة من الحكم الى يقين بأن هناك إرادة عليا تختار الرئيس، وأنه ينتظر الوحي من السماء ليقرر اسم خليفته.
المعاني الثلاثة تسير في اتجاه واحد: إلغاء السياسة. الرئيس بدا في هذه الكلمات العابرة كاشفاً لعقلية النظام كله. النظام، رغم كل الكلام الفخيم عن الديموقراطية أو الإصلاح السياسي، مؤمن بأن الرئيس مبعوث العناية الإلهية، أو نصف إله، ولهذا فإن الحديث عن انتخابات يعني، بالنسبة إلى كهنة النظام، نوعاً من الكفر الواضح والصريح بقوانين الاختيار الإلهي.
وهنا عودة الى الرجل العادي الذي يعتقد أن «الله اختار لنا الرئيس مبارك، وعلينا أن نرضى بقدر الله، وسيختار لنا خليفته وعلينا أيضاً أن نرضى به».
الرجل العادي يكلم الرجل العادي، هذه رسالة باطنية أخرى، في التصريحات الإيطالية للرئيس مبارك. إيمان حقيقي يجعل الرئيس «قوة عليا» مقدسة، وليس مجرد شخص يختاره الشعب ويمكن أن يغيّره. اختيار الرئيس غامض، لأنه يرتبط بإرادة لا يمكن قياسها أو معرفة تدبيرها. الغموض هو انتظار للوحي السياسي لا لتفاعلات الظرف، وطبيعة اللاعبين في مستقبل انتقالي لبلاد تُحكم بالوصاية.
الدولة تحت وصاية مؤسسات ضخمة، والرئيس يأتي في موعده مع القدر. وهي مقولة قيلت عفواً في بداية الثورة، وعلى لسان زعيمها جمال عبد الناصر، لكنها كانت تعني فكرة ما في عمق تنظيمات جنرالات التغيير. عبد الناصر قال «لقد جئنا في موعدنا مع القدر تماماً».
إنه شعور بالرسالة وبالإرسال، وأيضاً بالإنقاذ، وبأن السياسة قدر، الفعل الجوهري فيه غيبي، رغم أن «الثورة علم وعمل»، كما تقول أدبيات ماركس ولينين.
الرئيس مبارك إذاً كان في حالة صفاء ذهني رهيبة، وهو يكشف عن عمق تفكير النظام في عملية التغيير، وربما ساعدته عواطف العابر من أزمة مرض حادة، ويشعر بامتنان للسماء وأهمية مساندة القوة الإلهية. لكن الكلمات التي تسرّبت أقوى دلالة بكثير، إنها رسالة إلى الشعب.
الرئيس يقول للشعب لا شأن لكم بالسياسة والانتخابات: الله هو الذي يختار الرئيس ومن حوله، إن على الشعب العودة إلى البيت والنوم في أمان، وليترك عملية الاختيار الإلهي تأخذ مجراها.
الرئيس مبارك يرى علماً من علوم الغيب. وهذا ليس غريباً في قلب الصراع الدائر الآن بين النظام والمجتمع. النظام ليس لديه ما يقنع الناس، إلا أنه قدر إلهي. والمجتمع يريد التخلص من الوصاية وتسييس عملية انتخاب الرئيس وإبعادها عن الأقدار والاختيارات الإلهية.
السؤال أزعج مبارك، وفتح له صندوق اللاوعي السياسي المرعوب من المستقبل. المصري العادي يستخدم «المشيئة»، أي يقول «بإذن الله» عندما يخاف أو يتطيّر من فعل أو حدث في حياته.
هل تطيّر الرئيس مبارك من السؤال عن المستقبل السياسي له ولمصر؟ هل يشعر الرئيس مبارك بالخطر، وهذا ما دفع به إلى استخدام تميمة «المشيئة» ليدافع بها عن «مقعده» الخالد؟
مبارك وجد مفسّرين يكتبون بأن الرئيس أراد أن يقول للصحافي إن اختيار الخليفة ليس في يده، وإنه لا يريد أن يكون وصيّاً على صندوق الانتخابات. المفسّرون أذكياء، لكنهم لا ينتبهون الى أن الرئيس لا يحتاج الى «تميمة» يحمي بها نفسه ومقعده من الأرواح الشريرة، كما يفعل الأشخاص العاديون، ظهور التميمة يعني تغيّراً أو كشفاً في شخصيّة الرئيس أو بنية النظام.
اللجوء الى التميمة، ربما في معناها الغائب، هي استعادة قوة دولة الوصاية. وصاية إلهيّة، عادة، لتحمي الوسطاء الذين يحكمون بالاختيار الإلهي لهم، وليس بالاختيار الشعبي. وهو رجوع بسيط عن خطوات ما بعد تعديل الدستور، والاحتكام الى صندوق الانتخابات، وليس اختيار مجمع الكهنة اسم الرئيس.
الغموض هنا سلاح، لا يمكن أن تواجهه المعارضة إلا بمنطق البطولة، لا بالعمل السياسي. فالأقدار لا يتحدّاها سوى الأبطال، وفي كليهما نكوص يليق بالعجائز والمرضى ومستعمرات التعذيب الجماعية.

طواويس دولة الوصاية



المؤسسات في مصر حديقة طواويس، تريد أن يقدّسها المجتمع ولا يقترب منها، إلا إذا كان هناك دعم من مؤسسة يشعر طواويسها بقوة أكبر

ناصر أمين لم يكن يقبل بأقل من موقع رئيس الجمهورية، أو وزير الداخلية. أحلامه عندما كان هارباً من مطاردة أمن الدولة، لم تكن أقل من «استعادة» الحكم من المرتدّين على ثورة جمال عبد الناصر. أحلام مراهقة دفعته للهرب من حلم «المحامي العادي» الى تنظيم مسلح «يحارب» من أجل «الحلم القومي الكبير». ظل مطارداً من الأمن عاماً كاملاً قبل أن يحصل على البراءة في آخر عام من الثمانينيات على يد قاض لم يستجب لضغوط الأمن.
كفر ناصر بالتنظيمات والتغيير المسلح، لم يعد متوافقاً مع صورة المحارب من أجل الاستيلاء على الحكم، غادر الى موقع المدافع عن «حقوق الإنسان»، وبالتحديد معركة الدفاع عن استقلال القضاء. وهي المعركة التي منحها ٢٠ عاماً من سنواته الخمس والأربعين. لكنه الآن يقف أمام النائب العام متهماً بإهانة القضاة، تهمة تسبّب له ألماً حارقاً قبل أن تخيفه من عقوبة الحبس.
رئيس مجلس الدولة قدّم بلاغاً بناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، بعد تصريحات انتقد فيها رفض قضاة مجلس الدولة تعيين المرأة في السلك القضائي.
المستشار، وهو يقدم البلاغ، كان متّسقاً مع نفسه ومع مجتمع يعيش منذ سنوات طويلة تحت الوصاية. الوصاية هي الداء الذي يجعل المجتمع أصغر بكثير من مؤسساته. السيد المستشار، ضمن مجموعة أخرى من قضاة مجلس الدولة، رأوا، نتيجة أسباب يصعب فهمها، حرمان المرأة من حقها في التعيين بالقضاء.
لا يمكن تبرير الموقف إلا أنه تعامل مع المرأة بعقلية محافظة، تنتمي الى زمن بعيد، على الأقل ليس هو الزمان الذي بنيت على أساسه مصر الحديثة، ولا قانونها ودستورها. وهذا يعني أن القضاة رموا العدالة والمساواة في صندوق القمامة، واحتكموا إلى أهواء شخصية. العالم العربي كله، باستثناء مصر والسعودية، يسمح للمرأة بالعمل في القضاء. وإذا كانت السعودية تحكم بقانون القبائل، ولا تزال تعيش في العصور الوسطى، فإن مصر لها دستور وقانون يتعامل مع كل المصريين بمنطق المساواة. ولهذا، فمن العجب والمدهش أن تنحاز مجموعة قضاة ضد أصل مهنتهم: العدل والمساواة.
وهذا ما قاله ناصر أمين، لكن «خطأً صحافياً» نقل المعنى من النقد العادي الى هجوم حماسي. وهو ما اعتذرت عنه الصحيفة (الدستور) وناصر أمين في اليوم التالي مباشرة.
لكن السيد المستشار أراد أن يسير في الطريق الى نهايته، ويرسل رسالة تحذير يمنع بها موجات النقد المتوقعة.
من حق المستشار وأصحابه أن يروا أن تعيين المرأة ليس في مصلحة القضاة، لكن ليس من حقهم اللعب في الحقوق الدستورية والقانونية لتغليب هذا الرأي.

البارونات ضحايا



وجهه على الشاشة، علامة على فن صناعة الضحية، إبراهيم نافع اتهم بأنه صياد ثروات عبر منصبه في «الأهرام»، لكنه ظهر في صورة المطعون والمغدور. صورة ضحية ألقت به السلطة لإلهاء الجماهير التعيسة بدوام الحال واستقرار الفاسدين على مقاعد السلطة، والتقطها أعداء الفساد لينتقموا من ظلم وطغيان من كانت أياديه ممتدة في كل مكان، من أبواب الرزق في المصانع الى منصات الرأي في الصحف.
ابراهيم نافع واحد من بارونات الصحافة في 25 عاماً، وصل الى قمة «الأهرام»، أو صحيفة الرئاسة. وصل في عصر صحافة عرجاء، تسير في زفة السلطة، وتجهز فرق مداحين وتفرش الأرض بالسجاد والورود أمام أنصاف المواهب أو أرباعها أو حتى مخبر صغير يجد حظوة في مقارّ أمن الدولة.
هو بارون من هذا الزمن غير السعيد. صورة الضحية أعجبت إبراهيم نافع. ملامح وجهه للوهلة الأولى توحي بأنه خلق لهذه الصورة لا لغيرها.
وهو فعلاً مختلف عن بارونات الصحافة في عصر مبارك، فهو دمث ولطيف وطيب. مهذب في الحديث، يتكلم بفخامة، واثقاً من موقعه في خريطة الكبار بالبلد. وحتى لو اضطر إلى خوض معارك ذبح للخصوم، فقد كان يذبح بشوكة وسكينة. ذبح ناعم لا ردح فيه، كما كان يفعل سمير رجب، أو قتل بالهراوات، كما كان يفعل إبراهيم سعدة.
هؤلاء هم البارونات الثلاثة الذين أنهوا الصحافة في مؤسسات أمّمتها الثورة لتكون صحافة كل الشعب، وانتهى بها الحال لتكون ميكروفون دعاية للرئيس وأحياناً للحاشية القريبة.
رحلة صعود إبراهيم نافع بدأت من محرر في الصفحة الاقتصادية الى الصحافي الأقرب الى الرئيس، رغم أنه لم يكن فلتة في الكتابة الصحافية ويفتقر أسلوبه الى رشاقة يمكنها أن تمرر الوجبة الثقيلة من مدائح الرئيس.
صحيح أن مبارك أعلن عن إعجابه بسمير رجب، وهو إعجاب يكشف عن ذوق خاص في الكتابة الصحافية. لكن الأهم أنه كان يثق أكثر بابراهيم نافع، وسمح له بالتقدم الى منصب النقيب 6 مرات.
والسبب لم يكن نجوميّته في الصحافة، بل في مهارته كمدير شاطر في السيطرة على جموع الصحافيين الصغار برشى صغيرة.
ابراهيم نافع أراد أن يهدم أساطيره، بداية من راتب الثلاثة ملايين جنيه في الشهر، وصولاً إلى سلسلة القصور. قال بتواضع «راتبي لم يكن أكثر من ٢٠٠ ألف جنيه، وثروتي قصر في القاهرة وآخر في الساحل الشمالي وقرية في إسبانيا».
قالها بوجه ملائكي يذكر بإسماعيل ياسين في مسرحياته التراجيدية. لا بد أن المشاهد سيتعاطف مع ضحية لها هذا الوجه المصنوع لكي يستدرّ دموعاً على الظلم الموجّه تجاه بارونات السلطة.