دمشق | لم يخرج الاقتصاد يوماً عن دائرة حسابات المتحاربين على الساحة السورية، وإن كانت أخبار الهزائم والانتصارات العسكرية هي الطاغية على تغطيات وسائل الإعلام، فعندما يجلس القادة والمخططون لحساب الأرباح والخسائر، والتخطيط والإعداد للمعارك القادمة يكون الاقتصاد على سلم الأولويات، وفي بعض الأحيان تكون له الصدارة.
ومع تسارع التطورات الميدانية خلال الفترة الماضية، وإثارتها لتساؤلات كثيرة وجوهرية من قبيل الأسباب التي تدفع الحكومة للانسحاب من محافظة بشكل شبه كامل وتتريث في إعادة السيطرة عليها، بينما لا تكاد تمضي أيام قليلة على دخول المسلحين إلى منطقة معينة حتى تبدأ عملية عسكرية واسعة لتحريرها، ثم ما الذي يغري المجموعات المسلحة والتنظيمات التكفيرية بحلم السيطرة على هذه المدينة دون تلك. كل ذلك يجعل من التعرف إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل محافظة وإسهام كل منها في القطاعات الاقتصادية، فرصة للوقوف على الأهمية الاقتصادية لمناطق الاشتباك والقتال في سوريا.
مشكلتان واجهتا «الأخبار» في جمع البيانات والمؤشرات الإحصائية المذكورة. المشكلة الأولى تمثلت بعدم وجود بيانات لدى المكتب المركزي للإحصاء، وهو الجهة الرسمية المعنية بالرقم الإحصائي، تتعلق بالناتج المحلي الإجمالي لكل محافظة بغض النظر عن فترتها الزمنية. والمشكلة الثانية هي في غياب أي معلومات وبيانات تفصيلية عن واقع النشاط الاقتصادي في كل محافظة خلال سنوات الأزمة.
لكن بجهود خاصة من باحثي المركز السوري لبحوث السياسات أُعدَّت تقديرات خاصة لـ«الأخبار» عن الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة لكل محافظة وتبعاً للقطاعات لعام 2010، وذلك اعتماداً على المجموعة الإحصائية ومسح قوة العمل لعام 2010، ومثل هذه التقديرات يمكنها أن تقدم صورة عن الأهمية الاقتصادية لكل محافظة، وتأثيرات ذلك في سير المعارك والقتال خلال سنوات الحرب الدائرة حالياً.

إدلب والحسكة

في الأشهر الأخيرة برزت تناقضات في طريقة تعاطي الحكومة مع حدثين بارزين على الساحة العسكرية، ففي الوقت الذي كانت وحدات الجيش فيه تنسحب تدريجاً من المدن الرئيسية في محافظة إدلب، لم يكن الموقف نفسه عندما هاجم تنظيم «داعش» مدينة الحسكة، إذ سرعان ما تحركت تعزيزات كبيرة لصدّ الهجوم وتنظيف كل أحياء المدينة من مقاتلي التنظيم الإرهابي، وهو الأمر نفسه يتكرر حالياً مع مدينة تدمر.
تكشف التقديرات المذكورة سابقاً أن الناتج المحلي الإجمالي لمحافظة إدلب سجل في عام 2010 نحو 81.449 مليار ليرة (بالأسعار الثابتة)، أي ما نسبته 5.5% من إجمال الناتج المحلي لسوريا والبالغ نحو 1.469 تريليون ليرة سورية، لتحتل بذلك إدلب المرتبة التاسعة بين المحافظات لجهة قيمة الناتج المحلي. وفي تركيبة مساهمة القطاعات الاقتصادية يأتي قطاع الزراعة والغابات والصيد أول بنحو 19.765 مليار ليرة، ثم التجارة بنحو 19.055 مليار ليرة، فالنقل والتخزين والاتصالات بنحو 12.493 مليار ليرة.

لم يكن مسموحاً بخروج الحسكة عن سيطرة الدولة السورية

دون شك، فإن هذا الواقع الاقتصادي للمحافظة حضر بشكل أو بآخر في التقويم الذي أجرته الأطراف المتحاربة، فمن جهة المجموعات المسلحة كانت تغريها السيطرة على اقتصاد محافظة بالكامل، ولا سيما أنها محافظة لديها حدود واسعة مع تركيا، فيما فضلت الحكومة الانكفاء للاحتفاظ بقوتها للدفاع عن مناطق ذات بعد استراتيجي واقتصادي أعمق كمحافظة حماة مثلاً، التي تأتي في المرتبة السادسة بين المحافظات بناتج إجمالي قدره 122.491 مليار ليرة مشكلاً بذلك 8.3% من إجمالي ناتج البلاد، وحتى في مقارنة للناتج الإجمالي للقطاع الزراعي الرئيسي في المحافظتين سنجد تفوقاً واضحاً لحماه بناتج قدره 40.583 مليار ليرة.
ولا تخرج محافظة الرقة عن هذا السياق، فهي لا تكاد مساهمتها في الناتج المحلي للبلاد تتجاوز 3.9%، إذ إن ناتجها المحلي الإجمالي بلغ 57.327 مليار ليرة، كان لقطاع الزراعة النصيب الأكبر في تركيبته القطاعية وبنسبة وصلت إلى 40.13%.
أما الحسكة فلم يكن مسموحاً خروجها عن سيطرة الدولة، فإلى جانب الاعتبارات الاستراتيجية الجيوسياسية والعسكرية حضر الاقتصاد من بوابة واسعة، فالمحافظة تحتل المرتبة الرابعة في ناتجها المحلي الذي بلغ نحو 138.151 مليار ليرة، أي ما نسبته 9.3% من الإجمالي، حيث يتصدر قطاع التعدين واستغلال المحاجر قائمة القطاعات الاقتصادية بناتج قدره 61.112 مليار ليرة، فالزراعة والغابات والصيد بنحو 25.236 مليار ليرة.
وهذا هو حال مدينة تدمر ومحيطها، فأهمية المدينة لا تأتي من آثارها المصنفة على لائحة التراث العالمي فقط، بل من موقعها الجغرافي الاستراتيجي، فهي من جهة تربط سوريا بالعراق وما يعنيه ذلك من تدفق للصادرات السورية نحو الأسواق العراقية وتشغيل خطوط الترانزيت بين البلدين، ومن جهة ثانية فإنها تحتوي على عدة حقول للنفط والغاز وتشكل ممراً لخطوط الغاز المتجهة نحو محطات توليد الكهرباء ومصافي النفط في حمص وبانياس. ووفقاً لما تؤكده المصادر في وزارة النفط لـ«الأخبار»، فإن معظم حقول تدمر خرجت عن سيطرة الحكومة، إلا أنها بقيت ضمن دائرة الإنتاج الذي يسرقه حالياً تنظيم «داعش»، إضافة إلى قيام التنظيم وغيره من التنظيمات المسلحة بضرب خطوط نقل الغاز وإقفال المضخات طلباً للمال أو الإفراج عن سجناء له في السجون السورية.
وتعكس البيانات الاقتصادية لمحافظة حمص أمرين: الأول تصميم الحكومة على استعادة مدينة حمص كاملة من المسلحين منذ بداية الأزمة، والثاني ما تشكله تدمر من أهمية اقتصادية متعددة الجوانب، فالناتج المحلي للمحافظة جعلها في المرتبة الثالثة بنحو 149.411 مليار ليرة وبنسبة تصل إلى 10.16% من الناتج الإجمالي للبلاد، والأهم أن قطاع التعدين في المحافظة سجل ناتجاً قدره 35.016 مليار ليرة، فقطاع الخدمات بنحو 28.973 مليار ليرة، ثم التجارة بنحو 25.412 مليار ليرة.
لكن ثقل الاقتصاد في قرارات الحرب وجبهات القتال لا ينسحب على جميع المحافظات، فمحافظة درعا تأتي في المرتبة الثانية عشرة بناتج محلي قدره 51.973 مليار ليرة، أي ما نسبته من الناتج الإجمالي للبلاد 3.5%، ومع ذلك ترى الحكومة المعركة فيها مصيرية وذات بعد استراتيجي، وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى محافظة القنيطرة التي لم يتعدّ ناتجها المحلي عتبة 5 مليارات ليرة.

اقتصاد القلب

وبالعودة إلى قائمة ترتيب المحافظات لجهة ناتجها المحلي، وتحديداً المحافظات الخمس الأولى، تتضح أولويات الحكومة منذ بداية الحرب، فالدفاع عن «القلب» والمشاغلة على «الأطراف» له ما يبرره اقتصادياً أيضاً، فمحافظة حلب على بعدها الجغرافي عن العاصمة تمثل جزءاً محورياً من «القلب» الاستراتيجي في خطة مواجهة الحرب للحكومة السورية ولسبب اقتصادي رئيسي. إذ إن المحافظة تأتي في صدارة المحافظات لجهة ناتجها المحلي الذي سجل قبل بدء الحرب نحو 268.865 مليار ليرة، أي ما نسبته 18.29%، وتكتمل الصورة أكثر مع طبيعة القطاعات الاقتصادية التي كانت تشتهر بها حلب، فالتجارة الحلبية ناتجها المحلي يتجاوز 71 مليار ليرة، والصناعة التحويلية 41.957 مليار ليرة، فالنقل والتخزين والاتصالات بنحو 35.880 مليار ليرة، ثم الزراعة رابعاً بنحو 34.419 مليار ليرة، ونذكر مرة أخرى أن التقديرات هي بالأسعار الثابتة وليست بالأسعار الجارية.
أما دمشق، فأهميتها لا تكمن فقط في أنها العاصمة السياسية والإدارية للبلاد وما تمثله من تاريخ حضاري موغل في القدم، فهي ذات ثقل اقتصادي مهم جعلها في المرتبة الخامسة بناتج محلي قدر بنحو 135.971 مليار ليرة، يستحوذ فيه قطاعا التجارة والخدمات على نحو 54%، فالتجارة تسجل فيها ناتجاً قدره 42.781 مليار ليرة والخدمات 30.484 مليار ليرة. كذلك الحال بالنسبة إلى محافظة ريف دمشق، فأهميتها لا تقتصر على إحاطتها بالعاصمة وتواصلها الجغرافي مع بعض دول الجوار، بل من اقتصادياتها المرتفعة، فهي تحتل المرتبة الثانية بناتجها المحلي 198.094 مليار ليرة، مشكلاً بذلك من الإجمالي 13.4%. يسهم قطاع التجارة بنحو 24.12% من ناتج المحافظة، الخدمات 20.24%، والنقل والتخزين والاتصالات 16.90%.