عندما اغتالت الجماعات الإسلامية الرئيس أنور السادات، فوجئ عشاق الحشيش باختفاء «الكيف»، بعدما كان طلابه يقفون بعلانية للحصول عليه. الاختفاء كان إشارة سياسية، كما هي الحال اليوم في عهد نظام حسني مبارك، الموصوف بأنه «نظام في حالة حرب»
وائل عبد الفتاح

صناعة صورة الأب الحنون



المطابخ السرية لنظام مبارك تعمل في إعداد طبخة «الإنقاذ». المطبخ مرتبك. استعاد كل خبراته المختلفة: شمولية عبد الناصر الحنونة. صدمات السادات الكهربائية. قوائم الطبخات الشهيرة. والطهاة العواجيز والجدد. الوصفات التقليدية وما بعد حداثية. الطبخة تُعَد هذه المرة بارتباك وفزع ملحوظين. التسريبات تكمل صورة قديمة استعادها الطهاة تجعل من «الرئيس هو الوطن» و«حب الرئيس هو الوطنية». الصورة تلغي المسافة بين «الرئيس» و«مصر»، لكن ليس على طريقة مصر ناصر ومصر السادات، بل على طريقة «الأب الحنون الذي عبر المحنة وقلوب المصريين معه». وهي صورة من صور الفاشية استخدمت في كل مراحل حكم الجنرالات لمصر.
مبارك لم يمنح قبلاته في طابور مستقبليه من رحلة «المرارة»، إلا لوزير الداخلية اللواء حبيب العادلي ووزير الإعلام أنس الفقي، وهي إشارة إلى قوة مؤسستي الأمن والإعلام وحضورهما.
مؤسسة الأمن شغلها الأول والكبير هو الرئيس. والتركيز، الذي عملت به المؤسسة الأمنية طوال حكم مبارك، مطلوبة مضاعفته الآن في لحظات القلق الكبير. مؤسسة الإعلام عادت ربع قرن كاملة، وأخرج أنس الفقي من المخازن القديمة فرق الانتشار السريع لصناعة الأغنيات بالأمر المباشر.
صور الأب المريض جديدة على مبارك، الذي حاول دائماً الظهور في كامل لياقته والرهان على مدى صلاحيته الرئاسية. تخرج صور مبارك الجديدة في لحظات يريد النظام «تأمين» نفسه بالإلحاح على فكرة ملخّصها: «التفاف الناس حول الرئيس… وشعورها بالقلق من غيابه».
هذه الطريقة تأتي بنتيجة عكسية أحياناً، ويرد الناس عليها بنكت بعيدة عن الموضوع لكنها تشير إلى طبيعة النظام المتسلطة. تقول النكتة إن الحشيش سيعود للتداول بعد الاطمئنان إلى صحة الرئيس. وتفسر اختفاء الحشيش، بعد سنوات من الرواج المذهل، بأنه عدم رغبة في «سطل» الشعب اثناء غياب الرئيس.
النكتة تحمل نقداً لاذعاً للنظام وشعوراً بقوة قبضته وهيمنة صورته. ستلعب الطبخة الجديدة على هذه القوة، وقد تروج لها بتماسك بنية النظام كما بدا من تأكيد حضور المؤسسة العسكرية وبكل قادة فروعها في استقبال الرئيس. حضور متماسك وصلب يرسل رسالة إلى الجميع: نحن هنا.
هل سيفاجئ مبارك المصريين بتعيين نائب للرئيس؟
لعبة التسريبات تحاول اختبار فكرة النائب في هذا التوقيت، وغالباً سيكون «نصف مدني ـــــ نصف عسكري» ليكون «مرشح» اللحظة الأخيرة في سباق الرئاسة.
الطموحات بالتغيير فوّارة، وتجاوزت فكرة «النائب». الخوف من نائب هو تعطيل لصعود قوى، غالباً يكون «نائب الرئيس» ممثلاً لها، كما كان مبارك هو ممثل المؤسسة العسكرية في نظام السادات. قرار النائب لن يكون بحثاً عن الشعبية ومغازلة الجماهير، بل عن توازن قوى في تركيبة النظام. هذا ما تقوله آراء تتكلم عن فراغ في «النظام» يوازي الفراغ في المعارضة، وإن كان مختلفاً إلى حد كبير. وهذا يعني بشكل ما أن طبخة الإنقاذ ستتضمن خطوة النائب لتعادل خطوة محمد البرادعي.
البرادعي فورة سياسية لتحفيز «قوى التغيير» النائمة في كهوف بعيدة، وهي قوى تخرج مثل أهل الكهف، غريبة عن الفعل السياسي. تتضارب بعنف مع مستجدات الحياة وتحاول أن تصبح «كتلة تاريخية» تحدث نقلة حقيقية في الدولة المصرية، لكنها لا تزال في مرحلة مبكرة جداً وتعبر عن «رغبة» التغيير لا القدرة عليه.
وفي مواجهة الخروج من الكهف، تأتي طبخة الإنقاذ لتستعيد وحدة قوتها التقليدية وتوقظ شراستها في الدفاع عن «دولتها» التي تخطف منها ويستعيدها «المجتمع» الذي لا يزال في نظر هذه القوى مراهقاً لا يعرف مصلحته ويحتاج إلى أب قوي.
الأب القديم يرشح أباً قادماً، ويضعه على أول الطريق، كما كان يحدث منذ قيام الجنرالات بثورتهم لإنهاء الاحتلال وإعلان الجمهورية، التي أصبحت بعد ٥٨ سنة «شكلاً جديداً» للحكم. شكل تستبدل فيه العائلة الحاكمة بالمؤسسة الحاكمة، والملك بفرعون يجمع بين الشرعيات المختلفة ويملك كل المفاتيح وخيوط اللعبة ويحكم من خلال نظام «عبادة الشخص الجالس على الكرسي»، الذي لا يختاره الشعب بل يختار هو الشعب، ويعيد تشكيله على هواه؛ فالشعب «ثائر» مع ناصر و«فهلوي» مع السادات و«موظف» من دون لمعان مع مبارك.
ربما نقطة قوة مبارك الآن هي نفسها نقطة ضعفه. فالموظف لديه قدرة على التكيف مع الأجواء. تكيف أقرب إلى الالتفاف لا الحركة إلى الأمام. والتعديل في الدستور عام ٢٠٠٦ لتصبح الرئاسة بالانتخاب الحر بدلاً من الاستفتاء على مرشح مؤسسات الكهانة السرية، مجرد استجابة لضغوط دولية. تحايل فيها طهاة نظام مبارك في المادة التي تحمل الرقم ٧٦ لكي لا يصل سوى من يختاره النظام وبجواره مجموعة «سنّيدة» لاستكمال الشكل الديموقراطي اللطيف.
المادة ستدخل ضمن عجائب الدنيا لأنها أطول مادة في تاريخ الدساتير (عدد كلماتها تجاوز ٦٤٠ كلمة) ويغلب عليها ممنوعات الترشيح للمنصب العالي. لكنها رغم كل شيء أحدثت شرخاً في قبضة النظام عبرت منه المطالبات بالحق الطبيعي في اختيار الرئيس. وهكذا دخلت رياح التغيير من المدخل الذي أراد به الموظفون الالتفاف على الضغط الدولي. أصبح النظام مجبراً على الانتخابات وعلى اختيار مرشح قادر على المنافسة. وهذه تقنيات جديدة لا يتقنها النظام، وهو ما فتح المجال أمام نمو الاحتجاج وتصاعد مزاج التغيير إلى حد أن قطاعات غاضبة أصبحت تراه قادماً لا محالة وتتعامل على أنه مثل الظواهر الطبيعية لن يقف في مواجهتها أحد مهما كانت قوته.
وهذا مفهوم «خرافي» للسياسة يثقل على حراك التغيير ويضعه في مفترق طرق مع عواطف فياضة لم تتدرب بعد على «السياسة»، وتريد حرق المراحل لتحقق أحلاماً عبر عبادة أشخاص آخرين والدفع بحكام بدلاء ثم العودة إلى الكهف مجدداً انتظاراً لحنان الأب المختار.

جنّة «المتوسطين»



يبدو أن ما يحدث في مصر ليس مجرد «السير إلى الخلف». لكنه نتيجة طبيعية للسير بقدم واحدة، بينما الرأس يعيش في ثلاجات الموتى

«زي ما قال الريس... الشعب المصري كويس»، أغنية من «روائع» النظام احتفالاً بعودة الرئيس مبارك. الأغنية عن الجيل الذهبي الذي يقدم نفسه للرئيس مبارك على أنه «الجيل الكويس». هكذا «كان الشعب المصري يشك في نفسه حتى اكتشف الرئيس قدراته».
بروباغندا من الزمن الشمولي تغني للرئيس وتصعد به إلى مصاف «متعالٍ» على الصراع السياسي الدائر حول مستقبل الحكم. تريد البروباغندا عزل الرئيس في منطقة «مقدسة»، وكأن مصر تعيش زمن التصفيات.
كل تراكمات السنوات الـ٣٠ الأخيرة تعرض الآن في الواجهات. كل الأفكار تريد أن تبيع نفسها بنصف الثمن. الديكتاتور الذي حكم بالطول والعرض وبالأمن والصفقات يريد أن يستمر ولو كان مريضاً، ويقبله الناس على أنه المخلص والمنقذ. هذه الأيام هي خلاصة ٣٠ أو ٦٠ سنة من محاولة المصريين صناعة دولة حديثة بأيدي مصرية. نتاج محاولة الخروج من محنة الاستعمار الأجنبي. لكنها انتهت إلى محنة أكبر بكثير.
أسلوب «البقاء للمتوسط» أودى بمصر إلى الحالة التي نعيشها، وأهمها نظام مبارك الذي لم يكن يمكن أن يستمر سنة واحدة إذا لم تكن الأنظمة السابقة قد اعتمدت اختيار أصحاب المواهب المتوسطة والأقدار المتوسطة والمستوى المتوسط. مصر الآن جنة «المتوسطين». المجتمع يشبه النظام في أنانية «المتوسط». النظام يستبعد أي بديل. والمسلمون يستبعدون الأقباط. والرجال يستبعدون النساء. والجميع يحتكمون إلى حقائق مطلقة تلغي تطور البشرية، وتحول الإنسان إلى ماكينة تنفذ بلا تفكير. هؤلاء يجسدون محنة مصر التي صنعها «المتوسطون». المتوسط مفرط في أنانيته، يريد القفز إلى موقعه وتدمير كل الجسور لكي لا يصل أحد بعده. وعندما يصل لا يشغله سوى الموقع. وهذا يعني أن يدير الرئيس مبارك البلاد بقوانين استبدادية من منتجات الأنظمة الشمولية ثم يسافر للعلاج في أحدث المستشفيات بدون أن يفكر مثلاً في تطوير المستشفيات المصرية، لأن المهم هو الاستمرار في الموقع. وهذا ينطبق على تفاصيل أخرى في المجتمع نفسه: يطالب القضاة بالاستقلال عن الدولة لتطبيق العدالة وعندما تطالب المرأة بحقها في العمل بالقضاء، تخرج من تحت بذلة بعض القضاة نظرة ريفية قديمة جداً تنظر للمرأة بانحطاط شديد وتتعامل معها على أنها مجرد مدبرة منزل. هذه علامات مجتمع قادته الأنظمة إلى فقدان العقل. والحركة بغرائز يلعب بها «حكام» اللحظة الراهنة في كل المجالات. وهم أصحاب القدرات المتوسطة الذين يحبطون كل دعاوى الخروج من محنة الثلاثين عاماً ويوهمون المجتمع بأن ما يحدث «عقاب إلهي» و«خروج عن صحيح الدين». وهي أوهام تريد للمجتمع البقاء في الحجم المتوسط.

البرادعي و«سفينة المجاريح»



خرج محمد البرادعي إلى الشارع. أصبحت صوره تنافس صور الرئيس مبارك في الصحف الخاصة. البرادعي يتحرك من دون حراسة. وفي ملاعب المؤسسات ذات الشعبية (الأزهر والكاتدرائية). وجولات في الشوارع (لا مؤتمرات سياسية). حركة تعارف وشعور هادئ بالتحدي لا يزيل الترقب، بل يعبّر عن قدرات إدارية لمباراة البرادعي مع النظام.
وهي مباراة يديرها البرادعي بخلطة بين «إدارة ذكية» و«هوجة عشوائية»، إذ قرر كل «مجاريح» المعارضة أن يقفزوا فجأة في سفينة البرادعي.
احتلال مواقع المعارضة وانتقال الوجوه نفسها من حركة إلى أخرى من دون فعالية، شيء مثير للإحباط. العقل المسيطر على إدارة «الجمعية الوطنية» لا يزال في مرحلة إعداد المطالب، لا إعداد خطة للتحرك لفرضها. جمع التوكيلات أصبح هدفاً في حد ذاته وعلامة اختبار على «قدرة» حشد الجماهير.
لا تزال لعنة «الانتماء» تطارد الحركة السياسية، فالانتماء إلى تيار سياسي تهمة لا ينفيها الناشط السياسي، لكنه ينفي أنه يلعب لمصلحة تياره. لا تزال الفكرة الخطرة التي رمتها بروباغندا الاتحاد الاشتراكي بأن الانتماء إلى تيار فعل ضد الوطنية وأن التنظيم السياسي واحد. لهذا، تطالب كل التجمعات، المعتمدة على تأليف «جبهة واسعة»، بأن تكون العضوية فردية. ويدخل الأعضاء فرادى، لكن تحت بذلة كل منهم قميص تياره، وبدلاً من الوضوح تتحول العلاقة إلى لعبة تمويه واتهامات بالعمل لمصلحة أجندة خفية.
لا تزال روح البطولة تسيطر على العمل السياسي. العمل السياسي تطوعي لكنه ليس بطولة. والصراع في جمعية يضع عليها المجتمع أملاً كبيراً من المفروض أن يكون على أشياء أكبر من إدارة الجلسات، لكن على أفكار سياسية كبرى.
روح العجز والرغبة في اللحاق بالسفينة تسيطر على المشاركين في «جمعية البرادعي»، وهذا ما يجعلهم أنه «لا فائدة» وأنهم يقومون بأداء واجب لا يستطيعون التوقف عنه لأنه أصبح أسلوب حياة. لا يهدفون إلى شيء إلا الوجود وإعلان وجود في «أرض فراغ» لم يظهر لها صاحب بعد.
حدث هذا عندما بدأت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وعندما أسست حركة «كفاية». يصل ركاب السفن وهم يريدون أن يغرقوا جماعة أفضل من غرقهم أفراداً.
بعض من يعرفون البرادعي عن قرب يعتقدون أنه أذكى من أن يقع في فخ التعاطف مع «مجاريح» السفينة. المجاريح يقفون على باب البرادعي بالأداءات القديمة المكررة نفسها، وباستعراضات «الضحية» نفسها. وهذه من علامات انتحار مبكر جداً. انتحار قبل الحياة نفسها.