انتخابات استثنائيّة وانتخابات تعدّدية. أوصاف متنوّعة منحت للانتخابات السودانية منذ اليوم الأول للإعلان عن موعد إجرائها، ذهبت جميعها أدراج الرياح، بعد جملة المقاطعات التي أعلنتها أحزاب رئيسية، ممهدة الطريق أمام مرشحي حزب المؤتمر الوطني الحاكم، لتحقيق فوز سيكون طعمه أقرب إلى الخسارة
إعداد جمانة فرحات
آمال كثيرة عقدت على الانتخابات السودانية، التي من المقرر أن تبدأ غداً الأحد وتستمر حتى الثلاثاء، ما لم تتخذ الحكومة السودانية قراراً بتأجيلها في اللحظة الأخيرة في محاولة لإنقاذ صدقيّة الانتخابات بعد الانسحابات المتتالية للأحزاب الرئيسية منها.
انتخابات رئاسية وبرلمانية وولائية (نسبة إلى الولايات) كان يطمح من خلالها حزب المؤتمر الوطني الحاكم إلى طيّ نهائي لصفحة الانقلاب العسكري الذي نفذه الرئيس الحالي عمر البشير في عام 1989 وأطاح نتائج آخر انتخابات ديموقراطية شهدتها البلاد في عام 1986.
إلا أن العثرات، التي بدأت قبل أشهر من موعد الانتخابات وتفاقمت في الأسابيع الأخيرة، ساهمت في دفع أحزاب رئيسية إلى المقاطعة، في مقدمها الحركة الشعبيّة لتحرير السودان والحزب الشيوعي، قبل أن يطلق حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، رصاصة الرحمة على شرعيّتها بإعلانه مقاطعته لها على كل المستويات.
شرعيّة كان البشير وحزبه الحاكم في أمسّ الحاجة إليها بعد إصدار مذكّرة اعتقال بحقه من قبل المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور.
وجددت تطورات الأيام الأخيرة المخاوف من النتائج السياسية التي ستترتب على مرحلة ما بعد الانتخابات، على اعتبار أن الانتخابات تمثّل إحدى مراحل التحول الديموقراطي التي تمهد الطريق أمام الإعداد لاستفتاء تقرير المصير في الجنوب. استفتاء سيفتح الباب أمام كل الاحتمالات حول مصير السودان. بدءاً بالإبقاء على سودان موحد طوعاً، أو منفصل طوعاً، فيما أيّ احتمال يتجاوز مبدأ التراضي والطوعية، الذي عززه تهديد الرئيس السوداني بعدم تنظيم الاستفتاء إذا لم تشارك الحركة الشعبية في الانتخابات، سيعيد البلاد إلى مرحلة الحروب الأهلية التي عانى منها السودانيون.
وأمام توالي الانسحابات، انخفض عدد الذين يخوضون السباق الرئاسي من اثني عشر إلى ثمانية، لا يتمتع أي منهم بفرص حقيقية للفوز، باستثناء البشير.
ويتقدم الرئيس الحالي عمر البشير قائمة المرشحين الرئاسيين ممثلاً حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وذلك بعد انسحاب ياسر عرمان من الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى جانب كل من زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي، ومبارك عبد الله الفاضل المهدي عن حزب الأمة والإصلاح والتجديد، ومرشح الحزب الشيوعي السوداني محمد ابراهيم نقد. على عكس كل من عبد الله دينق نيال مرشح المؤتمر الشعبي، الذي آثر حزبه منذ البداية التمسك بخوض الانتخابات بكل مستوياتها، وممثل الحزب الاتحادي الديموقراطي الأصل حاتم السر، الذي قرر التراجع عن مقاطعة الانتخابات الرئاسية في آخر لحظة.
كذلك يشارك في الانتخابات الرئاسية عدد من ممثلي الأحزاب الثانوية، تبرز من بينهم رئيسة الاتحاد الاشتراكي السوداني الديموقراطي، فاطمة أحمد عبد المحمود محمد، لتكون أول امرأة تترشح إلى الرئاسة في تاريخ السودان.
أما المنافسة على رئاسة الجنوب فتنحصر بين رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، سلفا كير ميارديت، ولام آكول ممثل الحركة الشعبية لتحرير السودان ـــــ التغيير الديموقراطي. فيما تشهد انتخابات المجلس التشريعي في الجنوب، إلى جانب مجالس الولايات، منافسة محتدمة.
ووفقاً لقانون الانتخابات، يفوز برئاسة الجمهورية ورئاسة حكومة جنوب السودان المرشح الحاصل على خمسين في المئة من أصوات الناخبين بزيادة صوت واحد أو أكثر. وفي حالة عدم إحراز أي من المرشحين هذه النسبة ـــــ وهو أمر مستبعد في الانتخابات الحالية بعد ما حملته من تطورات ـــــ تجرى دورة ثانية بين المرشحَين اللذين حصلا على أكبر عدد من الأصوات.
أما على الصعيد التشريعي، فيتكون المجلس الوطني من أربعمئة وخمسين عضواً، فيما يتكوّن المجلس التشريعي لجنوب السودان من 170 مقعداً. وينتخب النواب على أساس نظام انتخاب مختلط يجمع بين الأكثري والنسبي.
ويُنتخب 60 في المئة لتمثيل الدوائر الجغرافية، فيما تخصص 25 في المئة من المقاعد للنساء. وتخصص الـ15 في المئة الأخيرة لقوائم الأحزاب السياسية، ويجري انتخابهم على أساس التمثيل النسبي على مستوى الولاية عبر قوائم حزبية منفصلة ومغلقة.
وتمثّل طريقة الاقتراع معضلة نظراً إلى شدة التعقيد الذي تتسم به، في بلد يعاني فيه ناخبوه الذين قدر عددهم بنحو 16 مليون شخص من معدلات أمّيّة مرتفعة. ويجب على الناخب السوداني في الشمال أن يصوّت عبر ثماني بطاقات انتخابيّة، بطاقة لرئيس الجمهورية، وأخرى لوالي الولاية، وثلاث بطاقات لمجلس الولاية (جغرافية، وحزبية، والمرأة)، وثلاث بطاقات مماثلة للمجلس الوطني.
أما في الجنوب فإن الناخب سيتعين عليه التصويت عبر 12 بطاقة انتخابية، ثمانٍ منها يتشارك فيها مع الناخب الشمالي، إضافة إلى بطاقة اختيار رئيس حكومة الجنوب، وثلاث بطاقات لمجلس الجنوب.
وإن كان المشهد الانتخابي على صعيد المنافسة الرئاسية بات شبه محسوم لمصلحة البشير، فإنه يصعب التكهن بنتائج الانتخابات التي ستحملها صناديق الاقتراع وتحديداً على الصعيد البرلماني والأقاليم، وخصوصاً في ظل تداخل الانتماءات الحزبية مع الانتماءات العائلية والقبلية والدينية.
وتقود قراءة الأوزان السياسية للأحزاب إلى آخر انتخابات عام 1986، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني الذي يفصل بين الحدثين، وانسحاب حزب الأمة الذي كان يحتل المرتبة الأولى في حينه لمرشحيه.
ومن هذا المنطلق، ستكون الانتخابات الحالية اختباراً جديداً لحزب الاتحاد الديموقراطي بقيادة عثمان الميرغني، الذي لم يستجب حتى هذه اللحظة للضغوط التي تطالبه بالانسحاب من الانتخابات. واحتل الحزب آنذاك المرتبة الثانية في عام 1986 متقدماً على الجبهة القومية الإسلامية، التي انقسمت إلى حزبين، هما حزب المؤتمر الوطني الحاكم بقيادة البشير، والمؤتمر الشعبي المعارض بزعامة حسن الترابي.
ومن هذا المنطلق، يسعى الترابي عبر إصراره على خوض الانتخابات إلى مواجهة «تلميذه المتمرد». وعززت الخلافات الأخيرة التي شهدتها أروقة حزب المؤتمر الوطني الحاكم على خلفية الترشيحات للانتخابات من احتمالات تحقيق الأحزاب، التي اختارت عدم المقاطعة، اختراقات مهمة.
ووسط التجاذبات السياسية، تتشابه برامج الأحزاب والمرشحين لجهة القضايا التي جرى تناولها مع التركيز خصوصاً على موضوع الجنوب وإقليم دارفور.
وتحت عنوان «استكمال النهضة»، خصص حزب المؤتمر الوطني الحاكم برنامجه لتعداد المكاسب التي حققها ولإطلاق الوعود بالمزيد منها، وتحديداً لجهة محاربة الفقر وتوفير خدمات الصحة والتعليم والمياه والكهرباء.
في المقابل، ارتكز «مانيفستو الحركة الشعبية للانتخابات» على ثلاثة محاور هي: الحرية، السلام والرفاهية، التي غلفت بمواضيع الاقتصاد والتعليم والصحة.
واتخذت الحركة من مقدمة البرنامج فرصة لمهاجمة الحزب الحاكم، متهمةً إياه باغتصاب حقوق السودانيين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وشددت على تمسكها بإجراء استفتاء تقرير المصير، وأطلقت وعوداً بمعالجة قضية إقليم دارفور.
في المقابل، رأى برنامج حزب المؤتمر الشعبي أن «الانتخابات تعقد بعد 20 عاماً من حكم الجبروت». وتناول قضايا الحريات العامة، المصير الدستوري، الإصلاح القضائي، الوحدة الوطنية، وأزمة دارفور التي وصفها بأنها القضية الإنسانية التي «تشترك فيها الدولة ضد شعبها». وتميّز برنامج المؤتمر الشعبي بدعوته «إلى العمل على تطبيق المحاسبة عن كل الجرائم التي ارتكبت في أثناء الحرب ورفع الحصانة عن مطلوبي العدالة»، في إشارة للبشير ومذكرة الاعتقال الصادرة بحقّه، فيما يدعو المؤتمر إلى وحدة طوعية تستفيد من تنوع الثقافات والأعراق واللغات، وتتجاوز سوء إدارة السلطة الحاكمة.
ويلتقي حزب «الاتحادي الديموقراطي» مع المؤتمر الشعبي في الدعوة إلى حل مشكلة دارفور وفق رؤية متكاملة. ويدعو إلى نظام برلماني للحكم، على رأسه مجلس يمثّل أقاليم السودان، وأن تقسم البلاد إلى عدة أقاليم مع إعطاء الجنوب وضعيّته الخاصة، أملاً في عدم انفصاله.


عمر البشيرأكثر من عقدين قضاهما الرئيس السوداني عمر البشير في الحكم، جعلت منه أول رئيس دولة ملاحق من المحكمة الجنائية الدولية وهو في سدّة الحكم
لا تبدو السنوات الواحدة والعشرون التي أمضاها الرئيس السوداني، عمر البشير، في الحكم منذ قيادته «ثورة الإنقاذ» كافية بالنسبة إليه، على الرغم ممّا سبّبته للبلاد من أزمات داخلية وإقليمية. ويطمح البشير بترشحه إلى ولاية رئاسية جديدة، للبقاء في السلطة محصّناً على الأقل عربياً وأفريقياً من قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي يلاحقه.
وساهم إعلان أكبر الأحزاب السياسية مقاطعته للسباق الرئاسي في تمهيد الطريق أمام البشير للبقاء في كرسي الرئاسة، بعدما استطاع تحقيق سابقة في تاريخ السودان بتمكّنه من القبض على مقاليد السلطة في البلاد طوال 21 عاماً ستتواصل على الأرجح خلال الأعوام الخمسة المقبلة، بعدما نجح في الحفاظ على دعم الجيش وجزء كبير من الإسلاميين الذين كانوا الرافعة الأساسية لحكمه.
ومثّلت «ثورة الإنقاذ»، التي قادها البشير في الثلاثين من حزيران 1989، نقطة تحوّل في حياة ابن المؤسسة العسكرية التي انضمّ إليها في ستينيات القرن الماضي، وأبى أن يخلع بذلتها إلا قبل أشهر قليلة من الانتخابات، محاولاً التخلص من أعبائها التي تراكمت على مدى سنوات طويلة. سنوات واجه خلالها السودان العديد من الأزمات والتوترات، كانت المعارك العسكرية سمتها الأساسية. وفي مقدمها الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، قبل أن يتمكن في عام 2005 من التوصل إلى اتفاق سلام معها مهّد لإجراء الانتخابات الحالية وحدد موعد الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، الذي قد يحوّله إلى أول رئيس للسودان في مرحلة ما بعد الانفصال.
ومثّلت الحرب الأهلية في إقليم دارفور ضربة قاصمة للبشير بعد تسبّبها بسقوط قرابة ثلاثمئة ألف قتيل، واتهام المحكمة الجنائية الدولية له بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة في الإقليم، مع احتمال إضافة تهمة الإبادة الجماعية.
اتهامات رأى البشير أنها ساهمت في رفع شعبيّته داخل البلاد، وكانت حافزاً لمؤيديه الذين يعتبرونه «رمزاً من رموز البلد»، بعدما تمكن نظامه من تحقيق عدد من المشاريع التنموية، مستغلاً ظهور النفط للعمل على ضمان استمراريّته في سدّة الرئاسة، على الرغم من أنها ساهمت فعلاً في تعزيز عزلته الدولية.
البشير قد يتحوّل إلى أول رئيس للسودان في مرحلة ما بعد الانفصال
عزلة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي مع اتهامه برعاية «الإرهاب» والتطرف بعد استضافته زعيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، واتهامه بتصنيع أسلحة كيميائية، ما أدّى إلى إقدام الطائرات الأميركية على قصف مصنع الشفاء في عام 1998.
ولم تكن علاقة نظام البشير مع دول الجوار أفضل حالاً. وعاش السودان خلافات مع إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، وتشاد. وتوترت علاقته بالدول العربية بعد دعم السودان لصدام حسين في أثناء غزو الكويت. واتهمّ نظامه بالوقوف وراء محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في عام 1996، أعقبها فرض عقوبات على الخرطوم لإجبارها على تسليم المتهمين.
وهذه الاتهامات كان لها ما يبررها، على اعتبار أن الرئيس السوداني لم يتأثر بميول والده الذي كان من أتباع طائفة الختمية ومن أنصار الحزب الاتحادي الديموقراطي، وفضّل الانضمام إلى الحركة الإسلامية السودانية، وتحديداً حزب الإخوان المسلمين منذ أن كان في المرحلة الثانوية. وسهّلت هذه التوجهات الإسلامية للبشير الحصول على دعم «الجبهة الإسلامية الوطنية»، التي كان يتزعمها حليف الأمس حسن الترابي، لتنفيذ الانقلاب على نظام جعفر النميري.
ومنذ اليوم الأول للانقلاب، تولّى البشير منصب رئيس مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني من 1 تموز 1989 إلى 16 تشرين الثاني 1993. وهو تاريخ حلّ المجلس العسكري، وتنصيب البشير نفسه رئيساً مدنياً إلى جانب احتفاظه بمنصب رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع، بعدما رقّى نفسه أيضاً إلى رتبة المشير.
وعلى عكس السنوات الأخيرة من حكمه، التي خصّصت للمفاوضات السياسية، انصبّ اهتمام البشير في الفترة الأولى على الحرب التي كان يشهدها جنوب البلاد، في محاولة لقلب موازين القوى، ما جعل البعض يتهمه بتنفيذ الانقلاب لإجهاض توقيع معاهدة السلام التي كان متوقعاً إنجازها في فترة قصيرة مع زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان جون غرنغ، التي كان قادة الإنقاذ يرونها مجحفة.
وبعد مرور ثلاث سنوات على تنصيب نفسه رئيساً مدنياً، واستقرار الأوضاع مرحلياً في الجنوب، ارتأى البشير في عام 1996 تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، جوبهت بتنديد ومقاطعة الأحزاب السياسية الرئيسية التقليدية. وخلال تلك الفترة، أسّس البشير والترابي معاً حزب المؤتمر الوطني، قبل أن ينقلب التحالف بين الرجلين إلى عداوة في عام 1999 بعد ظهور منافسة بينهما على حكم البلاد. عزل البشير المنظّر الروحي لجبهة الإنقاذ من منصب رئاسة البرلمان، بعدما حاول قيادة انقلاب دستوري على البشير عبر إجراء تعديلات تحدّ من سلطات الرئيس.
ومنذ ذلك الحين، خسر البشير دعماً سياسيّاً أساسيّاً كان يوفّره الترابي، إلا أنه استطاع الحفاظ على حكمه متسلّحاً بدعم المؤسسة العسكرية التي أخضعها منذ البداية لسيطرته، بمساندة من «تلميذ الترابي الأكبر» علي عثمان محمد طه، الذي يتولى حالياً منصب النائب الثاني للرئيس.



سلفاكير ميارديتإنه قائد الحرب والسلم معاً. أسّس مع جورج قرنق «الحركة الشعبية لتحرير السودان» وخلفه بعد وفاته في مسيرة «السلام». رجل الانفصال قد يصبح رئيساً للجنوب إذا انفصل
لم يكد يمر شهر على تعيينه نائباً لرئيس حكومة جنوب السودان، حتى وجد سلفاكير ميارديت نفسه أمام مجموعة من المهمات الجديدة، وضعته في صدارة المشهد السوادني خلال السنوات الأخيرة بوصفه الشريك الثاني في الحكم، بعدما كانت الحرب في جنوب البلاد قد وضعته في صدارة العمل العسكري طوال أكثر من عقدين.
ومنذ اللحظة الأولى لخلافته جورج قرنق، الذي توفي بحادث طائرة في 31 تموز 2005 مع انطلاق العملية السلمية في البلاد، تسلم ميارديت مناصب عدة دفعة واحدة، بدءاً بزعامة الحركة الشعبية لتحرير السودان بشقيها السياسي والعسكري ورئاسة حكومة الجنوب، إضافة إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
مناصب فرضت على ميارديت مواصلة مسيرة قرنق، ودفعته إلى إعلان التزامه بتنفيذ اتفاق السلام مع الحكومة السودانية الذي وصفه بأنه «من أكبر الإنجازات السياسية (للجنوبيين) في اتفاقية السلام الشامل، وسيدافعون عنه بأي ثمن».
اتفاق يرى البعض أن جل اهتمام ميارديت به ينحصر في شقه المرتبط باستفتاء تقرير مصير الجنوب، الذي يُعَدّ زعيم الحركة الشعبية من أبرز الداعمين له، على عكس منافسه الوحيد على منصب رئاسة حكومة الجنوب، لام آكول، الذي يرى أن «الأوضاع الراهنة في المنطقة لا تساعد على الإطلاق في إقامة دولة ذات سيادة ومؤسسات حكم»، ويصف اختيار الجنوبيين للانفصال بأنه «سيكون بمثابة الانتحار، لأن حكومة الجنوب التي تتمتع بحكم شبه ذاتي في حالة من الضعف الشديد».
في المقابل، لم يتوان ميارديت، أو «النائب الغائب» كما يحلو لأبناء الشمال تسميته لشدة ابتعاده عن عاصمة بلاده وقضاياها، عن دعوة الجنوبيين خلال إحدى عظاته التي يواظب على إلقائها أسبوعياً في كاتدرائية جوبا، إلى التصويت لمصلحة خيار الانفصال، «إذا أرادوا أن لا يكونوا مواطنين درجة ثانية».
شعاره: صوّتوا لمصلحة الانفصال كي لا تكونوا مواطنين درجة ثانية
هذه التصريحات إلى جانب صراحته التي هي من مميزاته الرئيسية، التي تعوض افتقاره إلى الكاريزما، جعلت علاقته مع الحزب الوطني الحاكم والرئيس السوداني عمر البشير، تمر بتقلبات عديدة غلبت عليها الخلافات. كان آخرها قبل بضعة أيام عندما اتهم ميارديت الخرطوم بإرجاء ترسيم الحدود بين شمال البلاد وجنوبها، في محاولة للاحتفاظ بالسيطرة على احتياطيات النفط، وتأكيده وجود العديد من الأدلة التي تشير إلى أن الانتخابات في الشمال ستزوّر.
كذلك عُدّت علاقته بالمعارضة ملتبسة إلى حد بعيد، بعد غياب التنسيق بينهما في العديد من المواضيع في الآونة الأخيرة على عكس المراحل السابقة.
ولا يتوقع أن يواجه ميارديت صعوبة في الفوز بمنصب رئاسة حكومة الجنوب، الذي يتولاه منذ عام 2005 بموجب اتفاق السلام، الذي سيحوله إلى رئيس لدولة الجنوب إذا ما اختار الجنوبيون الانفصال في استفتاء تقرير المصير، المقرر مطلع العام المقبل.
ويتمتع ميارديت بشعبية واسعة في جنوب البلاد بوصفه أحد أبناء قبيلة الدنكا، أكبر قبائل الجنوب وأكثرها نفوذاً.
كذلك أسهمت السنوات الطويلة التي قضاها في صفوف المتمردين متنقلاً بين جبهات القتال في إكسابه احترام الجنوبيين، الذين مثّلوا عقبة أمام محاولات قرنق إقالته في المرات العديدة التي اشتد فيها الخلاف بين الرجلين، وخصوصاً بعد اتهام ميارديت في عام 1998 بمحاولة الانقلاب على زعيمه.
وكان ميارديت قد بدأ حياته العسكرية جندياً في الجيش السوداني قبل أن يلتحق بحركة التمرد في الجنوب لمحاربة الحكومة المركزية. وأسهم إلى جانب قرنق عام 1983 في تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان. وخلال سنوات قليلة استطاع ميارديت تبوّء منصب نائب قائد الأركان، مكلفاً العمليات في الجيش الشعبي لتحرير السودان في عام 1986، قبل أن يعين في عام 1997 قائداً عسكرياً في بحر الغزال ونائب زعيم الحركة.
وتعاني إدارته للجنوب تحديات راكمتها سنوات الحرب الأهلية المدمرة التي خلفت مليوني قتيل بين 1983 و2005، ما يثير مخاوف جدية من قدرة الجنوب على إقامة دولته الخاصة في حال الانفصال. وفشل ميارديت حتى الآن في مكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وخصوصاً الجيش.
كذلك لم يستطع ميارديت تسريع عملية التنمية، التي جعل غيابها الجنوب يفتقر إلى البنى التحتية الأساسية، وسط معاناة ملايين الجنوبيين من الفقر المدقع والجوع. وتعثرت خطته لإعادة هيكلية الجيش الذي يستنزف ميزانية الجنوب على الرغم من توصله إلى دمج نحو 40 ألف مقاتل في صفوف المؤسسة العسكرية.
وتمثّل الصراعات القبلية في الجنوب، التي باتت تحصد شهرياً وفقاً لتقارير الأمم المتحدة أكثر مما يحصده النزاع في إقليم دارفور، تحدياً رئيسياً لحكومة ميارديت، مسهلةً احتدام المنافسة على مناصب الولاة والمجلس التشريعي في الجنوب، من دون أن تمس تمسك الناخبين بميارديت زعيماً لهم، ورئيساً محتملاً لدولتهم المقبلة.