ماهر منصورهنا مخيّم اليرموك. وهنا تبدأ حكاية فلسطينية بلون آخر، لا يشوبه البؤس الذي أرادوه لنا، لنثبت للعالم أننا عائدون. هنا، لا يشبه الفلسطينيون أنفسهم كلاجئين كما شاءت لهم الأقدار والأنظمة. وتلك حقيقة ينقلها زائرو المخيم، تحمل في طيّاتها المفارقة الأكثر انكشافاً على شعب يشبه قوس قزح، يتحايل على الأشياء ليمنحها ملامحه الخاصة. هو مقام الحياة الوحيد الذي دونه لا يمكن أن تعرف لماذا يصرّ الفلسطيني على أن وجوده مؤقت في مكان يسكنه، وفيه يحبّ ويتزوج وينجب ويعمل ويتملّك، ولماذا يصرّ على أن يعيش تفاصيل الحياة في منفاه رغم أن العودة هي احتماله اليومي في المخيم؟! باختصار، هنا في مخيم اليرموك: نحن نحبّ الحياة إذ ما استطعنا إليها السبيلا، ونصرّ على العودة كلما استطاعت الحياة إلينا السبيلا.
هنا ولدت وكبرت، أنا ابن الفلسطينية الحاجة عزيزة العلي، لم أخن وطني حين أحببت شامية، وحلمت معها في شوارع دمشق القديمة ببيت يفيض بالحب والأولاد، ولم أتنازل عن حق العودة إلى فلسطين حين درست وتفوّقت حتى صرت مهندساً معمارياً، ولم أتخلَّ عن قضيّتي حين حجزت لنفسي مكاناً في وظيفة حكومية. كنت فقط أعيش إنسانيّتي، وكانت فلسطين ولم تزل علامة فارقة في جبيني.
أنا ابن مخيم اليرموك، واحد من شلة رفاق جمعتهم ليالي المخيم، وفرّقتهم نهاراته حين فرّقتهم علامات نتائج الثانوية العامة بين كليات جامعة العاصمة السورية دمشق: فراس يدرس العلوم، جلال يدرس طب الأسنان، علي يدرس هندسة الأدوات الطبية، شاهر ورائد وزياد يدرسون الاقتصاد، وطارق معهد مهني متوسط، وأنا طالب في كلية الهندسة المعمارية، وتاسعنا وليد (القيمة المضافة) من فلسطينيي لبنان، طالب في كلية الاقتصاد. وتاريخ الشلة جزء من تاريخ فلسطينيي مخيم اليرموك في سوريا، حيث يقاسمون المواطن السوري، بقراره، رغيف الخبز والمقعد الدراسي والوظيفة الحكومية. يقاسمونه حتى الهمّ اليومي والأحلام أيضاً.
جنوب العاصمة السورية يمتد مخيم اليرموك. يخترقه شارعان رئيسيان هما: (اليرموك، وفلسطين) ينتهي الأول بمقبرة الشهداء الجديدة، بينما ينتهي الثاني بالمركز العربي الثقافي، وهو مبنى حكومي يتبع لوزارة الثقافة السورية، فالمدينة الرياضية وعلى كتفها تنتصب مقبرة الشهداء القديمة، وما بين الشارعين وحولهما تمتد أبنية متفاوتة الارتفاع، ويصل بين الشارعين شارع لوبية (اسم إحدى القرى الفلسطينية) وهو رابع أهمّ سوق تجاري في العاصمة السورية.
في المخيم ثمة أربعة مشافٍ، وخامس قيد الإنشاء، وعدد كبير من المستوصفات ومن المدارس الحكومية والنوادي الرياضية. ثمة سوق لبيع السيارات الجديدة والمستعملة، و«مول» تجاري أيضاً يملكه فلسطينيون. ثمة نبض حياة كاملة. تسقط من اسم مخيم اليرموك صفة المخيم في سجلات الأونروا، وتجعل منه باريس مخيمات الشتات، على نحو لا يكفّ تاسع شلّتنا وليد (الفلسطيني ـــــ اللبناني) في كل مرة يحدثنا عن معاناة فلسطينيي لبنان عن القول: (بدنا نطلب لجوء سياسي ع مخيم اليرموك، عسى ولعل نأخذ الجنسية، ونصير فلسطينيين سوريين).
تسقط صفة المخيم فقط على مخيم اليرموك، كان الانتظار قد امتدّ طويلاً، فكان من الطبيعي أن نتكيّف مع الوضع المستحدث؛ نبني بيوتاً من طبقات، نحبّ، نتزوج، نتناسل، نتعلم، نلعب، نعمل، نتاجر، نحلم... ونعيش مثل الآخرين. أمر واحد لم يتغيّر: ظلّ مخيم اليرموك مخيّماً، ومن مفارقة الأسماء أن العاصمة السورية تضم ثلاثة مخيمات للاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى مخيم اليرموك، لكن اسم «المخيم» دون إضافة يعني لأي سائق تاكسي في دمشق مخيم اليرموك.
في المخيم يتّسع الوطن الفلسطيني، يفيض على مداه الجغرافي وتضاريسه المحسوبة بمقياس الرسم، ويمتد ليصير جزءاً من السيرة اليومية لسكان المخيم، وقد حرصوا على استحضاره في نسيج حياتهم في المخيم، بدءاً من أبسط ممارساتهم اليومية، وانتهاءً بجميع فعاليات المخيم الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية والتعليمية، حتى أحياؤه وشوارعه حملت أسماء مدن فلسطين وقراها.
هنا مخيم اليرموك 2010... تعاود الشلة ترتيب أفرادها: الأستاذ فراس مدرّس في إحدى مدارس دمشق، المهندس علي موظف في وزارة الصحة السورية، رائد محاسب في وكالة الأونروا، شاهر محاسب تنقّل بين أكثر من عمل في مكاتب تجارية قبل أن ينتقل إلى العمل في الإمارات، زياد محاسب أيضاً، بينما فتح جلال عيادته الخاصة ويواصل دراساته العليا في بريطانيا إلى جانب زوجته الفلسطينية الموفدة من جامعة دمشق، طارق يدير محلاً للحدادة ويعمل على امتداد مساحة المدينة، أما أنا فموزّع بين العمل مهندساً في أحد المكاتب الخاصة والعمل في الصحافة. وجميعنا، رغم أنف من يريدنا أن نستقيل من إنسانيّتنا لمصلحة فلسطينيّتنا، ما زلنا نرغب في الحياة، وقد شاءت الأقدار أن نعيشها مواطنين بحكم السوريين في مخيم اليرموك، نحلم إضافة إلى أحلامهم... بالعودة.