strong>وائل عبد الفتاحهذه «حرب ضد التغيير». الرسائل واضحة وموحية بعد 6 نيسان. النظام في جولة الدفاع الأخيرة عن استمراره من دون غطاء سياسي، باستثناء تعاون «الأشقاء» في الاستبداد. وهذا ما يجعل المرحلة المقبلة «لعباً مفتوحاً» خارج التوقعات

رسائل 6 نيسان في لحظة القلق



«المرسيدس»، عنوان حكاية جديدة من حكايات الفساد، كشفتها هيئة المال الأميركية بالصدفة أو عن طريقة «الانتقاء السياسي» للتوقيت.
لا فرق، لكنها فضيحة ودخلت في تحريات «هيئة الرقابة الإدارية» بعدما وصلت إلى الصحف تفاصيل مثيرة عن رشى قدمتها شركة سوق المال والتبادل بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٤: الأولى بقيمة 1.1 مليون مارك ألماني، والثانية ٣٢٢ ألف يورو، بغرض تسهيل أعمال الشركة في مصر ومبيعاتها.
خيوط الفضيحة بدأت من محكمة أميركية، اعترفت أمامها شركة «ديملر مرسيدس بنز» لإنتاج السيارات بدفع رشى لموظفين في حكومات بعض الدول، ومن بينها مصر.
هذا ما حكته الصحافة عن «رشوة المرسيدس»، التي بدا أنها «حكاية عادية». لكن الفساد أكبر وحكاياته تغسل النظام ولا تزيد من ضعفه، لأن الفساد أصبح أخطبوطاً تمتد أذرعه خارج حدود النظام وتتشارك فيه قطاعات غير مسبوقة، تتعامل كما لو أنها ورجال مبارك في سفينة واحدة. لكنها في الوقت نفسه سفينة قابلة للغرق، هذا ما تشعر به قطاعات تحاول أن تجد طريقاً للقفز من السفينة بأقل مخاطر.
وما حدث صبيحة ٦ نيسان أشعر جهات كثيرة بالقلق من مصير سفينة مبارك، حين كان الضباط الكبار يجلسون خلف فرشة الصحف الشهيرة في ميدان التحرير، وإلى جوارهم سيارة الطعام والمثلجات، ويعطون الأوامر تدريجاً، ويرسلون من موقعهم رسائل بثّ الرعب المتعددة: لا بد أن يعود كل متظاهر بعلامة في جسده للذكرى له ولآخرين يرونه ويتعاطفون معه.
الرسالة الأخرى: تجربة الشرطة النسائية في ضرب المتظاهرات تشير إلى مرحلة جديدة يطوّر فيها الجهاز الأمني أدوات البطش، ويجعلها متوافقة مع «الثقافة المحلية».
هذه الرسائل تحاول إعادة السيطرة إلى أوضاع قديمة جداً، إلى درجة استخدام تعبيرات مستهلكة، مثل «إثارة الشغب»، وحركات محروقة مثل إعلان إصابة ١٠ ضباط في المواجهات مع المتظاهرين.
هستيريا أمنية تعكس حالاً من «اهتزاز الثقة». النظام لا يريد التفكير في تقديم مبادرة إصلاح حقيقية ينافس فيها قوى التغيير أو يستعيد فيها هيمنته على قطاعات المجتمع المحتقنة.
هذه واحدة من المرات النادرة في تاريخ مصر التي يقف فيها النظام وحده من دون سند اجتماعي، ما عدا المنافقين والحاشية والعناصر المرتبطة باستمرار البقاء. النظام الذي أكلته الأنانية المفرطة لم يعد يملك إلا أداة الأمن للسيطرة.
الثقة بقدرات الجهاز الأمني لا حدود لها، لكنه كان يعمل إلى جوار أجهزة أخرى قادرة على احتواء الأزمات الاجتماعية وتأمين توازن يحمي النظام. لكن الأمن وحده الآن، من دون ثقة من جهات متورّطة في فساد من نوع «المرسيدس» أو غيره من موديلات. الفساد الصغير يبرر نفسه بفساد أكبر.
وزير التعليم أحمد زكي بدر «دهم» إحدى المدارس مصحوباً بالصحافيين وكاميرات التلفزيون. وتعامل كما لو كان نصب «كميناً أمنياً» للمدرّسين والتلاميذ وفتّش في أوراقهم. وقرر قبل أن يغادر من أمام الكاميرا أن يعاقب كل طاقم المدرسة بالنقل إلى الصعيد.
عرض نال التصفيق من جمهور يريد الانتقام بأي طريقة ومن أي أحد. لكنّ أطرافاً صحافية أخرى رأت في «عرض» الوزير بلطجة وعدم معرفة للفرق بين مهمة الوزير، راسم السياسات وصانعها، ورجل شرطة يريد إعلان سلطته من دون خجل. وهذا ما سمح لمدير المدرسة بأن يستنكر بالقول: ماذا فعلنا لنعاقب؟ هل هربنا بأموال البنوك؟ أم غرّقنا العبّارة؟
الأنانية المفرطة أفقدت النظام جهاز مناعته وقدرته على استيعاب الشرائح الاجتماعية الغاضبة والمحتقنة بسبب السياسات العشوائية التي حوّلت الفساد إلى عمل يومي يتورّط فيه الجميع بدرجات لم تعد محتملة.
لا أحد في النظام يفكر. المسؤولون يحركون الآلة الوحشية لتثير الذعر في الشوارع. ماذا يقولون للعساكر وعناصر الكاراتيه ليعتدوا بالضرب على المواطنين؟
كيف يضمن الضباط الجالسون إلى جوار سيارة المرطبات ألّا تنقلب هذه الآلة عليهم وتتعامل معهم بوحشية مضادة؟
ما الذي يجعلهم مطمئنين إلى قوة الصفقات التي يكبحون فيها تنظيماً قوياً مثل جماعة الإخوان المسلمين؟
هذه لحظة قلق نادرة في تاريخ مصر. تحدث تشققات على جدار النظام، وتمكّن من تمهيد الأرض لبناء قوى تحتية لدولة حديثة.
البرادعي قال لوفد من الأدباء والفنانين إن التغيير يبدأ من ٢٠١١ بعد تسلّم الرئيس الجديد موقعه. لكنها الآن محاولة «تمهيد الأرض».
وإلى هذا الكلام تنتمي فكرة وافق عليها المشاركون في مؤتمر أقامه مركز استقلال القضاء أخيراً في القاهرة تحت عنوان «الإشراف والرقابة القضائية بين الإلغاء ونزاهة الانتخابات». الفكرة تحوّلت إلى توصية بتأليف لجنة عليا موازية أو لجنة ظل للجنة العليا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يتولّى المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة إجراءات إنشائها، على أن تتكون من قضاة ومنظمات حقوقية وأساتذة قانون ومحامين وشخصيات عامة، تتولى الرقابة على أداء اللجان العليا الرسمية.
الفكرة مهمة، لا على طريقة المحاكمات الشعبية أو التحالفات التقليدية لمنظمات حقوق الإنسان. ولكن كبذرة «سلطة رمزية» للمجتمع في مواجهة سلطة الدولة المطلقة.
المجتمع الذي لم يمارس سياسة تقريباً من ٥٨ سنة يحتاج إلى إعادة بناء لا مجرد تغيير على طريقة «عبدو يتحدّى رامبو». هذه الطريقة تكسر قليلاً من هيبة الديكتاتور، لكنها لا تغيّر شكل الدولة ولا شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع.
«اللجنة الموازية» ستكون فكرة كبيرة إذا تخلّصت من الحس البطولي للعمل العام، وأخلصت إلى كونها سلطة رقابة مجتمع لتحقيق انتخابات حرة فقط.
هذه السلطة الرمزية قتلتها الأنظمة المتعاقبة وصغّرتها إلى حدود لا ترى بالعين المجردة. اللجنة الموازية فكرة يمكنها أن تصنع «سلطة رمزية» للمجتمع وتبعد عنه أمراض المعارضة في مصر وخرافاتها.

عروبة القهر الخالدة



قمع حركة التغيير في مصر لم يعد مصريّاً فقط، فقد دخلت إليه عوامل عربية متضامنة مع نظام مبارك. الكويت أول المتضامنين. البقية ستأتي
«عسكر. عسكر ليه. هو إحنا في سجن والا إيه»، هتاف يعبّر عن دهشة من إغلاق الشوارع المحيطة بالسفارة الكويتية في حي الدقي أمس. جنود الأمن المركزي بملابسهم الجديدة كوّنوا حائط صدّ لمنع عشرات المتظاهرات (بالأساس) من تقديم بيان احتجاج للسفير بشأن ترحيل المصريين المؤيّدين للبرادعي من الكويت.
«السجن»، شعور عادي لمن يريد الخروج عن الصف ويعلّق على الأحداث. أسوار بشرية مزروعة تلقائياً في كل مكان. وجوه تختلط فيها القسوة بالدهشة وخوذات وعصي كهربائية وواقي بلاستيكي ينتصب للضغط على المتظاهر ووضع حدّ لحركته.
الكويت تضامنت مع نظام مبارك وألقت القبض على ٣٠ مصرياً يوم الجمعة الماضي أثناء محاولتهم إنشاء فرع للجمعية الوطنية للتغيير، التي أعلنها الدكتور محمد البرداعي بعد استقراره في القاهرة (شباط ٢٠١٠).
«أمن الدولة» الكويتي أرسل تحياته العطرة إلى شقيقه المصري بالقبض على «الطليعة الأولى» من المجموعة المؤيّدة للتغيير والبرادعي لتخويف بقية الـ٣٤٠ عضواً الذين وقّعوا بيان تأسيس الجمعية في الكويت.
«التحيات الكويتية» لم يسهل تفسيرها. البعض عدّها خوفاً من «العدوى»، والبعض الآخر أشار إلى « تضامن» عضوي بين أمن الحكام العرب، وهذا ما يشعرهم بالرعب في اللاوعي الذي يجعل «قرابة الاستبداد» فاعلة على نحو يتجمع فيه الخصوم تحت مظلة الحماية من التغيير.
بهذا المعني ساند الرئيس مبارك مثلاً الرئيس السوداني البشير في أزمة المحكمة الدولية رغم الخلافات بين النظامين.
وهناك عامل آخر، وهو أن غالبية الأجهزة الأمنية العربية تلقّت دروساً مصرية (عامة وخاصة). ويبدو أن هذا وقت «ردّ الجميل»، وهو ما فعلته أجهزة الأمن الكويتي عندما رحّلت ١٧ مصرياً وساومت البقية وأجبرتهم، حسب روايات المصريين، على توقيع تعهدات بعدم العودة إلى «خطيئة» تأييد التغيير.
الأمن هناك والأمن هنا اتفقا على صناعة «جسر الرعب»، الذي يقسم المدينة إلى مربعات تشبه الزنازين. لكنّ الغريب أن المصري، المذعور أصلاً على لقمة العيش والمهاجر خلفها من بلده إلى مدينة يعيش فيها عبودية الكفيل، تحرر نفسياً ولم يفكر في ما ينتظره. ربما لحظة طيش أو فوران جماعي، لكنها لحظة أقلقت عاصمتين عربيتين، ووحّدت بينهما في لحظة. والأهم أنها مثلما حرّكت عناصرها السرية، كشفت عن تعاون غير معلن يجعل وزراء الداخلية العرب هم أكثر المسؤولين من حيث عدد اللقاءات المشتركة، ومن حيث جدية تنفيذ الوعود المشتركة. إنهم صنّاع عروبة القهر الخالدة.

صراع على سلطة الحشيشلماذا تمنع الحكومة الحشيش الذي يجعل الشعب يتحمّلها؟ سأل حشّاش بمنتهى البراءة. وعبّر آخر عن دهشته: ماذا فعل الحشّاشون للدولة كي يشعروهم بالقلق من اختفاء المزاج؟
الأسئلة تكشف عن «صدمة» أهل الحشيش من «غدر» الدولة غير المبرر . اكتشاف يعبّر عن «شرعية» ما للسماح بالممنوع، فالدولة التي تمنع قوانينها الحشيش، تسمح به إلى درجة «شبه علنية».
روى أحدهم في المقهى حكاية صحافي كان يقف في طوابير الباطنية خلال السنوات الأولى من الثمانينيات. الصحافي كان ينتظر دوره في الحصول على «قرش» حشيش من تاجر شهير اسمه مصطفى رزق. كان صبيانه يجلسون على طاولات تقطيع الحشيش ليوزّعوه علانية، بينما هو ينفخ دخان شيشته باستمتاع ومراقبة لنوعية الزبائن.الصحافي نظر إلى صورة أنور السادات الموجودة بقوة خلف المعلم، وأطلق شتائم ولعنات وصلت إلى أذن المعلم، فنظر إليه من مكانه وأخرجه من الطابور، ورفض أن يبيعه الحشيش.
المعلم مخلص لرئيس كان يراه العامة صانع جنة المزاج العالي، وارتبطت به في الأساطير الشعبية بطولات في صناعة الثروات السهلة ورواج المخدرات الشعبية. وهي أساطير تختصر دور السادات كرئيس في هذه الرغبات الشعبية الخفية، خرجت مع أحلام الصعود السريع التي حرّكتها سياسات السادات، والتي أتت بعد سنوات من «شدّ الحزام» في عصر عبد الناصر. وعندما اغتالت الجماعات الإسلامية الرئيس السادات، فوجئ عشّاق الحشيش باختفاء «الكيف» وتضاعف سعره أربع مرات.
الاختفاء كان إشارةً سياسية، كما يفسّر الآن الاختفاء المفاجئ بأنه علامة على تغيّرات في نظام مبارك.
هذه نظرية تربط بين قوة الدولة والسماح بالممنوع. إشارة السلطة هنا هي قدرتها على ضبط إيقاع الممنوع والتحكم في درجته. بعد أيام من عودة الرئيس من رحلة المرارة، عاد الحشيش بالتنقيط، أولاً من سيناء ثم بعد ذلك في وسط القاهرة، لكن بعد أن أصبح المتوفّر نوعاً واحداً. كأن «أحداً من الكبار قرر احتكار الصنف وحده». صراع على السلطة حسم لأحد المتقاتلين الذي قرر مضاعفة السعر احتفالاً بالانتصار.