strong>وائل عبد الفتاحبعد القمع العلني والضرب في الساحات العامة، أخرج النظام المصري ما في جعبته من أسلحة إضافيّة لمكافحة التغيير. أسلحة تبدأ من تجنيد الأجنحة الدينية ولا تنتهي باستعراضات الإلهاء والنبش الجاهل للملفات، كل هذا لحماية «الأب الخالد»

الجناح الديني في خدمة «الأب الخالد»



«نرجوه أن ينظر إلى أبنائه في السجون»، هذا ما قاله مرشد الإخوان المسلمين محمد بديع على الهواء مباشرة، في حوار تلفزيوني، موجهاً كلامه إلى الرئيس حسني مبارك. بديع تعامل كما لو كانت صورة الأب هي الصورة الطبيعيّة للرئيس.
لم يبد المرشد مختلفاً عن «الصورة» التي تلحّ عليها أخيراً أجنحة النظام الدينية والإعلامية. لا فرق هنا بين «الجماعة»، أقوى معارضة للنظام، وبين المؤسسة الدينية الرسمية التي باتت تقدّس الرئيس.
بديع قال بالنص: «احترامنا لموقع الرئاسة نابعٌ من أن المصريين يحرصون على أن يكون رئيسهم شخصيةً محترمةً؛ لهذا نطالبه بأن ينظر إلى أبنائه في السجون الذين ظلمتهم أجهزته الأمنية».
المرشد لم يختلف كثيراً عن مطربين غنّوا للرئيس الأب، بأمر من وزير الإعلام. ووصف الرئيس مبارك بأنه «والد لهذا الشعب». وفسّر البرقية، التي أرسلها إليه في أثناء أزمة «المرارة»، بأنه «كان مريضاً وجميعنا تمنى له الشفاء والعافية».
وقدم المرشد تصوره السياسي على هيئة أمنيات بـ«التخلّي عن رئاسة الحزب الوطني» لأن «المصريين يريدون حقهم من أبيهم».
تصورات المرشد لا تختلف كثيراً عن تصورات «الجناح الديني» للنظام النشيط هذه الأيام بكل مستوياته، العلني والسري. البطاركة والمشايخ. أزهر وكنيسة. كلهم يقدمون التحيات والولاءات للرئيس مبارك ويدعمونه في مزاد الهتاف له، باعتباره الأب التاريخي الحامي لمصر من التغيير.
جهاز أمن الدولة ظهرت براعته وقدراته في تجنيد عملاء سريين في الجماعات السلفية، التي تحتل المساجد الصغيرة في القرى. هؤلاء استنفروا بكل عدّتهم المتاحة ليهاجموا التغيير ورمزه الحالي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي. ورأوا أن حملة التغيير هي «حرب ضد الله ورسوله».
قيل هذا صراحة أيضاً على قناة «الناس»، التي حصلت على تصاريح من أمن الدولة بالعمل، ولم يفهم وقتها لماذا تتم الموافقة على قناة سلفيّة تروّج للتطرف والخرافات، بينما تتعثر الموافقات على قنوات أخرى.
الردّ الجاهز دائماً هو: أمن الدولة. أي أن الجهاز يدير صناعة الرأي العام من خلف الستار. هذا هو الواقع منذ ربع قرن، الذي نحصد نتيجته في جوقة إعلامية واحدة موحّدة خلف النظام في معركة الدفاع عن الاستمرار.
خطب الجمعة كلها تتحدث عن طاعة أولي الأمر، وكأن البرادعي عندما سحب من النظام ورقة أنه «مدني» في مواجهة دعاة الدولة الدينية بكل تراثها القمعي، فإن النظام لم يجد سوى ورقة الجناح الديني لسحبها في وجه «التغيير».
وفي تزامن ملحوظ مع خطب الطاعة للرئيس، خرجت أسماء مشهورة من الكنيسة تبايع الرئيس مبارك باسم المسيحية، آخرهم رئيس المجمع المقدس، الأنبا بيشوي، الذي قال إن «الكتاب المقدس يدعونا إلى تأييد مبارك».
ما دخل الكتاب المقدس أو القرآن في لعبة السياسة التي تتغير أشكالها وفصولها وفق ما توصف به في أنها «فنّ الممكن». الدين له القيم المطلقة العليا، أما السياسة فهي شأن يومي يتغير حسب الأهواء والمصالح.
سأل سائق التاكسي، الذي لمح تصريحات التأييد الديني لمبارك، «هل لو اخترت الرئيس مبارك أكون مسلماً أو مسيحيّاً صالحاً؟».
لماذا اللعب بالدين ليكون داعماً للديكتاتوريات؟ جماهير واسعة يستمعون جيداً إلى مقولات المشايخ والقساوسة ويصدّقون أن كلامهم تعليمات إلهية، وهم يريدون ألا يخسروا آخرتهم بعدما تعذبوا في دنياهم من سياسات النظام. ولهذا فإن النظام يفكر بالطريقة القديمة: هذه الخطب تجهز قطعان عمياء أمام صناديق الانتخابات تصوّت لمن يقمعها ويفسد حياتها.
وهذا ما يجعل العسكريتريا تلتقي مع الثيوقراطية في الإيمان بصورة الأب، وهو ما يجعل منافسة الإخوان للنظام هي صراع على أبوّة المجتمع.
الصراع على الأبوة لم يمنع مرشد الإخوان من تحيّة الأب الحالي، مترجّياً لنظرة عطف، وليس مطالباً بالحق المشروع في الاختلاف السياسي. الجماعة تساهم في إلغاء السياسة، وترفع الرئيس إلى قداسة البطريرك، المدعوم بخطاب ديني، رسمي ومعارض، يبعده عن تفاصيل الصراع حول التغيير.
الجماعة مثل الكنيسة والأزهر، تنظيمات تمهّد طرق الإقناع والسيطرة لصعود الجنرال الذي يستمد أبوّته من قدرته على اقتناص السلطة.
الجناح الديني لا يصنع شرعيّة، لكنه يمنح الشرعيّة للعسكري الذي يقتنص السلطة. خطاب ناعم يصعد بالرئيس درجات قداسة تتردد صداها في المسافة بين السياسة والدين.
هل سينجح الجناح الديني للنظام كما ينجح في كل مرة؟ وإذا كانت الكنيسة قد أعلنت تأييدها لمبارك، فإنها ستفقد قطاعات من المسيحيين كانوا يؤمنون بحيادها، وسيتمّ التعامل معها من هذه الشرائح الذكية كما يتعامل المسلم الذكي مع خطب فقهاء السلطان ومشايخ تبرير القهر باسم الإسلام.
خطاب الجناح الديني للنظام سيؤثر، لكنه لن يكون بنفس التأثير القديم، لأن رغبة التغيير تجتاح المشاعر التي وصلت إلى حالة اليأس.
لماذا لا يعود المشايخ والقساوسة إلى مساجدهم وكنائسهم ويتوقفون عن اللعب في السياسة؟ لماذا تحرك الجناح الديني للنظام بهذه الكثافة الملحوظة؟ هل من أجل إعادة نشر اليأس؟
الأمن ينشر الخوف، والجناح الديني ينشر اليأس. هذه هي المعادلة التي ستعمل عليها قطاعات ذكية من المجتمع. لكن هناك قطاعات أخرى ستظل أسيرة خطابات العمى السياسي التي تقال في التلفزيونات والمساجد والكنائس. خطابات تمجد الديكتاتور وتمنحه حصانة باسم الله وباسم أبوّته للشعب وللبلد.
وستبقى معارضة، مثل «الإخوان»، في موقع «الوصيف المشاكس». «وصيف» ينفي السياسة، ويعيدها إلى مرحلة العفو والغفران من الأب الحنون، بينما يُطحن نشطاء التغيير في الشوارع وهم يطالبون بتغيير الأب الخالد.

صناعة الإلهاء



مع كل أزمة في مصر، تخرج الدولة بكل ابتكاراتها إلى العلن. استعراضات الإلهاء التلفزيونية هي إحدى هذه الوسائل، وبطلاها حالياً مرتضى منصور وأحمد شوبير
في انتفاضة الخبز عام 1977، فاجأ التلفزيون الرسمي جمهوره بمسرحية «مدرسة المشاغبين»، واحدة من كلاسيكيات صناعة الإلهاء، السلاح الشهير في أنظمة الاستبداد.
صناعة الإلهاء شهدت قفزة خلال عصر مبارك، وبعدما جرى تصنيع نجوم الإلهاء خارج ملاعب اللهو، لا يحتاج النظام الآن إلى «مدرسة مشاغبين» أو «مباريات» كرة قدم، بعدما أصبح المشاغبون يتحركون خارج العرض، والمباريات تمتد خارج المستطيل الأخضر لتشغل مساحات أضخم من اهتمامات «الشخص العادي».
هكذا طاردت لعنة مرتضى منصور ـــــ أحمد شوبير هذا «الشخص العادي» من شاشة إلى شاشة. كل منهما يمتلك قوة ما، ومسنود بجبروت خفي (المال أو الشهرة أو العلاقة بأطراف ما في الحكومة)، ولا أحد عادياً يستطيع أن يقف في مواجهتهما وحده، وساعتها تكون الفرجة بإحساس «اللهم اضرب الظالمين بالظالمين». هذه هي مشاعر جمهور يفتقد حرب الفتوّات التي غابت عن الحواري وانتقلت إلى التلفزيون مصحوبة بالعدّة الكاملة «شتائم وتهديد باستخدام القوة، وادّعاء بالأدب واللياقة، وتلسين واستفزاز وأخيراً التمسّح بالدين واستخدام المصحف وقراءة الفاتحة».
استعراض كامل من الصعب على أي قناة تلفزيونيه تفويت فرصته. لكن البارز أنه انتقل إلى قنوات دينية وإلى البرامج الموجهة من التلفزيون المصري. وهذه علامة على أن هذا ليس مجرد استعراض من استعراضات الشوارع الخلفية، ولكنه استعراض كاشف عما حدث في مصر خلال ٣٠ سنة.
المستشار (منصور) منع الكابتن (شوبير) من الظهور على الشاشة بحكم قضائي بعد وصلات شتائم استمرت عاماً ونصف عام. ومن بعدها جندت البرامج الشهيرة كل طاقتها للصلح بين الطرفين.
إلى هذا الحد كانت القضية مهمة بالنسبة إلى من يشكّلون عقل الرأي العام وذوقه وثقافته؟ لماذا؟
القضية لا تتعلق بمشكلة عمومية أو خلاف فكري أو سياسي، لكن بقذائف شتائم موجّهة على هامش معركة انتخابية في ناد رياضي. هي «حرب مواقع» تخفى أسبابها الحقيقية عن المشاهد العادي.
والمعركة بين طرفين، كل منهما حقق شهرته عبر «الصناعة التلفزيونية». منصور شهير في عالم المحاماة والقضاء، وشوبير من حراس المرمى المهمّين في تاريخ كرة القدم.
التلفزيون الرسمي ظل يعلن مفاجأة استعراض الصلح، إلى أن وقعت الحلقة من برنامج يشرف عليه وزير الإعلام بنفسه ولم يحدث الصلح. لكن الاستعراض اكتمل بمؤثراته العاطفية: الأم والعائلة والمصحف وأسماء الصحابة، إلى آخر عدّة الإلهاء، التي يبدو أنها ناجحة حتى الآن، لكنه ليس النجاح المعتاد.

نبش الجاهلينهذه الصحافة هاجمت نجمة السينما، بسمة، لأنها اكتشفت «جدّها اليهودي» وطالبتها ضمنياً بالاعتذار أو «تخفي بلوتها»، وربما تنكر علاقتها بجدها.
النبش في السر حدث بعد زيارة بسمة لبيت البرادعي ضمن وفد الفنانين، في واحدة من مرات نادرة يخرج فيها «النجوم» عن مجال نفاق السلطة ومن يركب عرشها. الخروج عن نص النفاق أزعج منصّات الحراسة الصحافيّة، ودفع بجنودها المتخصصين في النبش، لكن النابش بدا جاهلاً، ذلك الجهل المركب.
الجهل ينتصر منذ فترات وهذه أيامه. لم يعد ممكناً أن توقف هؤلاء وتضع حداً لهوجات يقودونها ويحرقون فيها قيماً وأفكاراً دفعت البشرية غالياً من أجل الوصول إليها. بسمة جدها يهودي. وما العار في ذلك؟ اليهود مصريون عاشوا سنوات طويلة وشاركوا في صنع حياة مصرية وبناء الدولة الحديثة حتى قامت كارثة العصر: إسرائيل.
غالبية من اليهود المصريين هاجروا إلى فرنسا وأميركا، والبعض إلى إسرائيل. وبقي منهم بضع مئات في مصر، حارب بعضهم في معارك وطنية ضد الاستعمار الجديد والقديم وضد الصهيونية أيضاً.
ويوسف درويش، جد بسمة، من هؤلاء. وحتى قبل أن يشهر إسلامه عام ١٩٤٨، لم يوقف حروبه ضد كل أشكال استغلال المصريين وقهرهم، من الملك إلى الاستعمار والحكومات المستبدة، وكان مؤسساً في منظومات الدفاع عن العمال بمهارة المحامي ونفسية المناضل وروح القائد السياسي. يوسف درويش هو عنوان حكاية مثيرة تختلط فيها اليهودية بالإسلام.. بالشيوعية.. بالسجون والاتحاد الاشتراكي.. بعبد الناصر وإسرائيل. يوسف كان له اسم حركي هو «الحديدي» بعد «صموده» في المعتقل، قضى فيه 11 سنة متقطعة. وهذا ما جعله حكاية كبيرة في أساطير حركات اليسار في مصر. وابنته «نولة»، الباحثة والمترجمة والمهتمة الآن بحقوق المرأة، شغلتها السياسة هي الأخرى وذابت مع حركة الطلاب الشهيرة في 1972، السنوات الانتقالية من عبد الناصر إلى السادات.
والثالثة ابنتها، حفيدته، بسمة، التي لم تعرف سوى حسني مبارك، وهي مذيعة ثم ممثلة نجحت في التلفزيون والسينما، رغم أنها ليست من «موديل» النجومية المعتاد في السنوات الأخيرة. حكاية عبر ٣ أجيال من الاختلاف، ودفع كل منهم ثمن الاختلاف على طريقته. لكن بسمة تدفعه بشكل مثير للاستفزاز في مواجهة الفخورين بجهلهم والرافضين لأي اختلاف. النبش في سيرة بسمة سينقلب غالباً ضد الفخورين بجهلهم ليروا «الحديدي» الذي ظلّ حتى عمر الـ 95 يحلم بمصر جديدة.