تكاد لا تهدأ الحركة في «سوق الخضار» في عين الحلوة، فهذا السوق الذي تعدت وظيفته معنى اسمه الضيق، بات أشبه بـ«مول شعبي» يشمل إلى الخضار كل ما يلبي احتياجات أهل المخيم من مأكل وملبس إلى أدوات منزلية، وهو قبلة للفقراء اللبنانيين أيضاً الذين تجذبهم أسعاره الرخيصة
سوزان هاشم
يتسابق أبو محمد موسى مع ساعات الصباح الأولى من أجل توضيب وترتيب الخضار والفاكهة التي يشتريها من «حسبة» صيدا، لبيعها في دكانه، هنا في «سوق الخضار» في عين الحلوة. هكذا، يتأهب أبو محمد باكراً من أجل استقبال الزبائن، مستفتحاُ نهاره ببعض الأدعية التي اعتاد لسانه تمتمتها وهي باعتقاده كفيلة بأن «تفتح باب الرزق «، كما يقول. ومهما يكن، يبدو أبو محمد راضياً عن «نعمة الله». نعمة يعرفها بالشكل الآتي: «مستورة الحمد لله، عايشين أحسن من غيرنا في المخيم».
إذاً هكذا يفتتح باعة الخضار واللحوم في السوق التجاري في المخيم، ليلحق بهم في ما بعد، مع تقدم ساعات النهار الأولى، أصحاب محال الملبوسات والمواد الغذائية والأدوات المنزلية وغيرها. ورويداً رويداً، ومع اكتساح أصحاب «البسطات» المتنوعة الشارع الرئيسي للسوق المترافق مع ازدحام بشري كثيف، يكتمل المشهد المعتاد. وحينئذ يصبح «الشاطر وحده» هو الذي يقوى على اختراق هذه الجموع الغفيرة التي تجتاح المكان. أما سبب هذا الازدحام فيعود لكونه «يمكنك هنا أن تجد كل ما يخطر في بالك من سلع ومواد غذائية ولحوم، وكلها موجودة جنباً إلى جنب من دون أن تضطر إلى أن تسير مسافات طويلة، تماماً مثل المول»، هكذا تشرح آية ناصر سبب ارتيادها الدائم السوق الذي يوفّر عليها، بحسب تعبيرها، عناء البحث الطويل عمّا تحتاجه. وإذا كانت أصناف المواد المعروضة في السوق متداخلة بعضها ببعض، إذ يمكنك أن تجد أمام عربة الخضار عربة ملبوسات وغير ذلك، فالأمر ذاته ينطبق على زبائن السوق الوافدين من مناطق مختلفة من داخل المخيم ومن جواره أي من «مدينة صيدا ـــــ الغازية ـــــ درب السيم وغيرها، وذلك بسبب رخص الأسعار المعروضة فيه»، بحسب ما يشير محمد عثمان، أحد أصحاب محال الأكسسورات والعطورات في السوق.
استطاع السوق الذي لا يتجاوز طوله 350 متراً أن يمثّل الشريان الاقتصادي الوحيد في عين الحلوة
هكذا يجمع سوق عين الحلوة فقراء لبنان بلاجئي المخيم، إذ يقصد حسن النعماني من مدينة صيدا سوق عين الحلوة، على نحو شبه يومي لتأمين الخضار التي يشتريها «أرخص عالنص من برا»، ولا يبدو مكترثاً بما يشاع عن المخيم من سوء الأوضاع الأمنية في داخله «ما في شي بيخوّف داخل المخيم، كلها مجرد إشاعات»، مشيراً إلى أنه بمعظم الأحيان يكون الوضع الداخلي في المخيم طبيعياً كخارجه، باستثناء حين تنشب بعض التوترات، وقتها «أتجنب الدخول إليه ريثما تهدأ الأوضاع». والأمر ذاته ينطبق على الكثير من الزبائن الوافدين من الخارج، الذين يتجنبون المجيء، في هذه الظروف بانتظار الهدوء الأمني، وهو الأمر الذي أكد عليه جميع التجار الذين التقتهم «الأخبار». لا يقتصر إقبال هؤلاء الزبائن على الخضار، بل يتعداها إلى التجهيزات المنزلية والملبوسات. هكذا وجدت حسناء إبراهيم الآتية من الغازية، التي تستعد لتجهيز بيتها الزوجي، ضالتها في هذا السوق، ولعل أكثر ما جذبها فيه الستائر المنزلية «ذات النوعية الجيدة وبأسعار زهيدة مقارنة بالخارج».
ولعل سبب الرخص، كما يشرح لنا مفيد قاسم (وهو صاحب محل ملبوسات في السوق) هو «لغياب رسوم الكهرباء والمياه ورسوم البلدية عن هذه المحال، كما أن بدلات الإيجار رخيصة نسبياً، كما أن بعض التجار، لا سيما تجار الخضار منهم، يستلمون كميات كبيرة منها مما يخولهم الحصول عليها بسعر أرخص من غيرهم»، زد على ذلك يتابع قاسم «أن البائع الفلسطيني يرضى ولو بالقليل»، علماً بأن هؤلاء التجار وبحسب ما أفاد قاسم يحصلون على بضائعهم من تجار الجملة خارج المخيم.
بيد أن هذا السوق الذي يقع في وسط مخيم عين الحلوة، لا يشبه في شكله الحاضر ما كان عليه سابقاً، إذ إنه مرّ في مراحل عديدة «بالموازاة مع تطور الحركة والحاجة داخل المخيم»، كما يشرح عضو اللجنة اللبنانية ـــــ الفلسطينية للحوار والتنمية محمد كلاب. ويردف الرجل أن «السوق ولد في الخمسينيات وكان عبارة عن بسطات من الخضار تفترش الشارع، وبعض محال اللحوم المبنية من ألواح الزينكو، وكان عددها ضئيلاً جداً». ويضيف «كان هذا السوق يلبي حاجات اللاجئين سابقاً المقتصرة على الغذاء في أغلب الأحيان»، مشيراً إلى أن «الثياب لم تكن تمثّل لهم أولوية، وخصوصاً أنهم كانوا يأملون حينها العودة إلى فلسطين». والسبب الآخر، هو أن «قلّة قليلة منهم فقط كانت تحمل أموالاً، علاوة على ذلك لم تكن الحياة سابقاً تحمل هذه التعقيدات الراهنة». راوحت الأحوال مكانها، إلى أن «أتت الثورة الفلسطينية في السبعينيات، فأغدقت أموالها على مخيم عين الحلوة، فتوافرت رساميل مع البعض أتاحت لهم مزاولة التجارة. وفي الوقت عينه ازداد عدد سكان المخيم، وخصوصاً بعد احتضانه لاجئي تل الزعتر والنبطية، وهو ما خلق حاجة ملحة لتوسيع السوق وتطويره».
وأتيح أيضاً لأهل المخيم تشييد منازل إسمنتية عوضاً عن بيوت الزينكو، ما سمح لهم بالارتفاع عمودياً في البناء، فحولوا منازلهم الأرضية إلى محال تجارية وانتقلوا للسكن فوقها. وقد كان ذلك بُعيد دخول الثورة الفلسطينية إلى المخيم وكفّ الدولة اللبنانية يدها عنه. كل ذلك أوجد حاجة ملحة لتطوير «سوق الخضار»، الذي لم يعد يلبي متطلبات أهله، ومن ذلك الحين أخذ السوق بالتطور تدريجياً ليتوسع، ويشمل في شكله الحالي، كل ما يبتغيه أبناء المخيم ليمثّل بذلك اكتفاءً ذاتياً في التسوّق. وليس هذا فحسب، فجيران المخيم أيضاً وجدوا في السوق ضالتهم. والملاحظ أن الكثير من محال الخضار انتقلت من رفوفها إلى العربات المتناثرة على طول الشارع الرئيسي في السوق لتتحول إلى «بسطات»، وذلك بعد لجوء أصحاب هذه المحال إلى تحويل معظمها إلى محال للملبوسات وغيرها، «استغلالاً للأماكن فيه التي أضحى الحصول عليها نادراً في السوق، وخصوصاً بعدما ارتفعت بدلات الإيجار بعدما غزا التجار السوريون السوق كمستأجرين فيه»، يقول محمد صالح معللاً ذلك. وهذا الأمر يؤكده عضو اللجان الشعبية أبو معتصم عمار الذي قال «إن بعض أصحاب المعامل السورية، أنشاوا محال تجارية في عين الحلوة بعدما جذبتهم حركة الازدهار فيه، عارضين دفع بدلات إيجار مغرية مقابل الحصول على مكان يعرضون بضائعهم فيه، وهو ما جعل تلك البدلات ترتفع ارتفاعاً ملحوظاً عن السابق».
وهكذا فإن هذا السوق الذي لا يتجاوز طوله 350 متراً وعرضه 4 أمتار فقط، استطاع أن يمثّل «الشريان الحيوي الاقتصادي الوحيد في عين الحلوة، الذي يساهم أساساً في تخفيف نسبة البطالة. إذ يمكن القول إن هناك حوالى 300 تاجر بين صاحب محل أو بسطة يزاولون عملهم في هذا السوق»، كما يشرح رئيس لجنة حق العودة فؤاد عثمان مردفاً «أن السوق يُعدّ عاملاً مساعداً للعائلات الفلسطينية، التي يرزح معظمها تحت خط الفقر، بتأمين احتياجاتهم بأسعار مقبولة».


«هو عبارة عن خلية من النحل لا تهدأ حتى منتصف الليل». هكذا يصف محمد كلاب سوق الخضار والفاكهة في مخيم عين الحلوة. ويوضح الرجل أنه «حتى في حالة التوتر الأمني يظل هذا السوق محافظاً على صخبه، وإن خفّ لغياب الزبائن الوافدين من خارجه، بيد أنه يظل مزدحماً بأهل المخيم الذين يتهافتون لشراء المواد التموينية». وما إن تهدأ الأحوال، يقول كلاب حتى «يعود زبائن الخارج إليه، ليزيدوا صخبه صخباً». ولذلك، يرى كلاب أن انعكاس التوترات الأمنية على حركة السوق ضئيلة نسبياً.