فراس خطيبالأجواء في الدولة العبرية «احتفالية» منذ مساء أمس. الأعلام الإسرائيلية تصلك من حيث لا تدري، مغلفة بالنايلون مع الصحف اليومية، وتراها ربما بين أيدي الصغار يبيعونها للمارة. تطل عليك أحياناً من السيارة المجاورة، أو من شاب يفاجئك حاملاً العلم يبيعه للواقفين في أزمات السير.
والاحتفال لم ينته بالأعلام، ففي ليلة أمس، كانت حيفا على موعد مع النيران المتطايرة من الميناء. وتل أبيب أيضاً، تلك المدينة المقطوعة عن شؤون الساعة، تتزين بحلة «استقلالية» كأنها في صلب الحدث. ظاهرة تزداد في المدن المختلطة، حيث يسكن العرب. كلها تبدو مشاهد احتفالية، تخفي بين ملامحها رواية أصلية، عن أهل أصليين للمكان، يعيشون على هامش التاريخ، في الشتات أو مخيمات اللجوء، تحت الاحتلال أو بين جدران الحصار.
ففي اليوم الذي يحتفل فيه الإسرائيليون بـ«يوم الاستقلال» يحاول فلسطينيو الـ48 عيش تفاصيل الرواية الحقيقية المختفية من وراء الأعلام ودخان المناقل الذي سيكسو «المحميات الطبيعية» التي كان جزء منها ذات يوم قرى فلسطينية.
ولهذا الغرض، تنظّم لجنة الدفاع عن المهجرين، بالتعاون مع لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل، مسيرة العودة الـ13 إلى أنقاض إحدى القرى الفلسطينية المهجرة منذ عام 1948. وقد اختار المنظمون لهذا العام قرية مسكة الواقعة على مقربة من مدينة الطيرة في المثلث الفلسطيني، حيث ستنطلق المسيرة عصر اليوم، تحت شعارها التقليدي «يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا».
سيسير المتظاهرون إلى ما بقي من حجارة القرية. سيرفعون كما في كل عام أسماء القرى الفلسطينية التي هُجّرت، وسيهتفون من أجل عودة اللاجئين، مستعيدين تاريخ القرية التي هجّر أهلها تحت تهديدهم بتنفيذ مجزرة تشبه المجزرة الرهيبة التي أحدثتها العصابات الصهيونية في دير ياسين. عندما هجّر أهالي القرية، كان عددهم يقارب ألف فلسطيني، (بلغ عددهم اليوم أكثر من 6 آلاف لاجئ).
وجاء، في بيان، عمّمته لجنة المهجرين: «نحن إذ نحيي الذكرى الثانية والستين للنكبة الفلسطينية، فإننا نؤكد أنه مهما شرّعت المؤسسة الإسرائيلية من قوانين لكمّ الأفواه والمس بحرية التعبير، فإننا مصرون على إحياء ذكرى النكبة التي حلت بشعبنا، ونحن الذين على مرمى حجر من قرانا ومدننا المنكوبة وننظر بحسرة لصمت مآذن المساجد وأجراس الكنائس يوم أسكتت لتتحول إلى زرائب لأبقار المستوطنين وخمارات وبؤر للدعارة وتعاطي المخدرات، ومقابر أجدادنا تدنس وهي تستصرخ الضمير الإنساني منذ أكثر من واحد وستين عاماً». وتابع نص البيان أنه «إيماناً منا بانتمائنا الفلسطيني وتجديداً للقسم والعهد اللذين قطعناهما على أنفسنا بالعودة ورفض كل البدائل، من تعويض وتبديل وتوطين، فإننا نتوجه إلى أبناء شعبنا، وهيئاته الاجتماعية والسياسية للمشاركة الفعالة في الفعاليات».
تأتي هذه المسيرة في ظل الأجواء العنصرية تجاه الفلسطينيين، المتلخصة أخيراً باقتراح قانون يمنع إحياء ذكرى النكبة، أي عزل الفلسطيني عن روايته وذاكرته. ويبدو جلياً أن العودة لن تكون وحدها حاضرة في هذا المكان، فالفلسطيني، أينما حل، يراكم الهموم من مسيرة إلى أخرى، ويفجرها في سماء الذاكرة. والتوجه إلى مسكة يحمل بين طيّاته دعوة للذكرى كي تتجلى للأجيال الآنية والقادمة. ستقول الرسالة إنه مهما كثرت الأعلام الإسرائيلية، وتعالى دخان المناقل واللحوم المشوية، ومهما حاول الساسة الإسرائيليون تزييف الواقع، فمن وراء كل هذا المشهد رواية ترويها الحجارة حتى لو صمت البشر.